fbpx

المصلحة الوقحة: السياسات الخارجية للدول فاقدة الهوية

0 326

لن يختلف مهتمّان بالشأن السياسي الدولي، على فكرة أنّ المصلحة في البيئة الدولية، هي المحدّد الأساس الذي تتحرك من أجله السياسات الخارجية للدولة، وما يُبنى عليها من تحالفاتٍ واتّفاقياتٍ وعداوات. لكنّ هذه المصلحة بشكلها الصرف ليست الشكل المعلن من العلاقات. حيث تحاول الدول دوماً – وتحديداً تلك ذات الثقل الحضاري أو ذات المشروع الأممي أو تلك المُتخَمة بالأيديولوجيا، وسواها – أن تصوغ مصالحها وسعيها إلى تعظيمها، وفق أُطرٍ أخلاقيةٍ أو حتى متوائمةٍ مع التوجّهات الثقافية للمجتمع المحلي المقصود استهدافه، أو مع قيم مجتمعها ذاته على الأقل.

عموماً، غالبية الدول تبحث عن أي شكل “أخلاقي” تُبرر به انتهازيتها/نفعيتها الفجة، بل وحتى الاعتداء وتدمير الآخرين، بحيث يُمكن تعظيم هذا النهج إلى مستوياتٍ لا حدود لها، كما فعلت الولايات المتحدة على سبيل المثال – ما قبل ترامب – بصياغة مصالح تحت مسوّغاتٍ دينية “حروب صليبية لبوش الابن”، أو “أخلاقية إنسانية ديموقراطية لأوباما”، قبل أن يتخلى ترامب تقريباً عن ذلك، ويكتفي بالشعار فاقد القيمة “الحرب على الإرهاب”.

وهو بذلك يقترب من الدول فاقدة الهوية، والتي غالباً ما تكون دولاً في مرحلة تحوّلٍ إلى الساحة الدولية، حيث لم تُبلور هُويتها الخارجية بعد، بل وحتى الداخلية أحياناً، أو أنّها في مرحلة تحوّلٍ بتخلِّيها عن سياساتها وأيديولوجياتها السابقة، إمّا بحثاً عن إطارٍ جديد، أو تعرٍ كليٍّ من ذلك، أو أنّها دولٌ أصغر من أن يكون لها هُويتها الواضحة.

بالطبع هناك الكثير من الدول فاقدة الهوية، سواءً أكانت هويةً للدولة ذاتها “قوميةً أو دينيةً أو سوى ذلك”، أو هويةً سياسيةً دولية، وربّما نتحدث هنا عن نماذج جد واضحة في العالم العربي، الذي فقدت العديد من دوله هوياتها – أو أنها لم تكتسب واحدة بالأساس – (الإمارات والبحرين وقطر مثلاً).

هذه النماذج غالباً هي أكثر تصالحاً مع “لا أخلاقية” سياساتها الخارجية، بل وربّما تعلم أن انتهازيتها واضحةٌ للجميع، وغالباً ما تُحاول ترويج نموذجها السياسي غير الأخلاقي باعتبار أنّه الطريق الأسهل للوصول إلى مصالحها، دون أيّ عناء.

صحيح أنّ هذه الدول يصعب التنبؤ – ظاهرياً – بنهج سياساتها، لكنّه في حقيقته أبسط من سواه، حيث أنّه قائم على التحوّل الدائم نحو المصلحة الأهم، ولو كانت آنيةً، حيث سيتمّ التحوّل ثانية وثالثة.

ورغم المكاسب المُؤقّتة التي تحوزها هذه الدول، لكنّها تفقد في المقابل كثيراً من المكاسب دائمة المنفعة، وعلى رأسها بناء حاضنٍ اجتماعيٍّ إقليميٍّ يرى فيها النموذج الأعلى، ويؤسِّس شرعيةً “اجتماعية” طويلة المدى لمصالحها.

عدا عن أنّها سياساتٌ مرتبطةٌ بالأساس بالشخوص الصانعة لها، ولا تعطي أيّ اعتبار للقوى الاجتماعية في الدول الثانية. بل وعلى العكس من ذلك بالضبط، حيث تسعى إلى الحفاظ على مصالحها بالحفاظ على بنى الدول الأخرى واستمراريّة البنى السلطوية على ما هي عليه، وتقويض أيّ فعلٍ اجتماعيٍّ قد يلحق أضراراً بمصالحها. إلّا إن كانت السلطات في تلك الدول لم تقدّم لها ما تطمع فيه من مصالح، حينها ستشتغل على الإطاحة بها أو حتى على تهديم الدول المقصودة كلياً، إن استطاعت ذلك.

عدا عن أنّ هذه الدول ذات السياسات العارية عن المسوغات الأخلاقية، هي عرضةٌ للشكّ الدائم فيها من قبل الفاعلين الآخرين، سواء لعدم رسوخ نمطٍ ثابتٍ في سياساتها، أو لمرونة حركتها وانتهازيتها وتبدّل مواقفها. ثم إنّ الفاعلين الآخرين، أو بعضهم، سيرى في هذه الدول كياناتٍ قابلةً للمساومة لا دولاً لها مكانتها وخطوطها الحمراء غير القابلة للتنازل.

وفيما تسعى بعض دول أوروبا للحفاظ على شيء من “أخلاقياتها” المتبقّية لها، وخصوصاً في الملف السوري، غير أن هذه “الأخلاقية” المتواضعة هنا، ليست لتبرير مصالح، بقدر ما هي نتيجة لفقدان فعالية العمل في الملف السوري، وبالتالي تأتي “أخلاقيتها” نفاقاً ووجهاً آخر للانتهازية الفجة العربية.

يمكن أن نسقط ما سبق على الاندفاع الإماراتي نحو الإعلان عن “تطبيع” علاقاتٍ كانت قائمةً منذ سنواتٍ طويلةً مع إسرائيل، وعلى عدّة صعد: سياسية، وعسكرية، وأمنية، وتكنولوجية، واستخباراتية، واقتصادية. حيث أنّ الإمارات هنا، على غرار الدول الصغرى في الخليج العربي، تشتغل دوماً عبر بناء سياسةٍ خارجيةٍ مُتقلِّبةٍ ومعتمِدةٍ على عدّة قوى خارجية؛ لتوازن صغر حجم الدولة وقلّة وزنها السياسي، في مواجهة الجيران الأقوياء (ما يكمن أن نسميه: “السعودية فوبيا”، أي قلق الإمارات وقطر الدائم من السعودية، رغم التقارب الظاهري بين الإمارات والسعودية).

بل ويأتي هذا الاندفاع الإماراتي، في سياقٍ أبعد من ذلك، وهو المصلحة الوقحة، عبر تمثيلٍ واضحٍ لفقدان الهوية العربية والإسلامية لسياستها الخارجية، حيث تأمل أن تكون اندفاعتها نحو إسرائيل عاملاً مساعداً على إعادة إنتاج الشرق الأوسط تفكيكاً وتفتيتاً لما تبقى فيه من قوى فاعلة، وإنتاج كياناتٍ صغيرةٍ ومتناهية الصغر يُمكن الهيمنة عليها، ويأتي في ذات السياق سعيها الذي ما يزال قائماً لفصل شرق سورية وبناء دولةٍ فيه لصالح ميليشيات قسد، عدا عن إشغال محيطها الخليجي عسكرياً، ودفع مصر نحو انشغالٍ دائم، وحضور إماراتيٌّ بارزٌ في عدّة جبهاتٍ عسكرياً أو أمنياً استخباراتياً، وذلك بحثاً عن صياغة شرق أوسطٍ مُفكّكٍ وبلا هوية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني