fbpx

المسيحيون المهاجرون.. وأوراق نعواتهم

0 439

لي اهتمام – منذ الصغر – بقراءة أوراق نعوات الموتى وخاصة المسيحيين، لأن دائرتي المجتمعية الضيقة كانت منهم، وكنت ألاحظ أنّ أقرباء المتوفى كانوا مقيمين بغالبيتهم في حلب “حيث أقيم”، ويندر أن يكون هنالك أقرباء للميت في مدن سورية أخرى، والقليل جداً كان لهم أقرباء في الخارج ومنها فنزويلا.

ودارت الأيام كما تقول “أم كلثوم”، فبدأت تظهر أسماء دول تدلّ على انتقال الكثير من المسيحيين السوريين عامة والحلبيين خاصة، إلى دول كثيرة، حيث كانت قد نشأت ظاهرة تمثّلت بهجرة المسيحيين المشارقة باتجاه الغرب، ما أدّى إلى تكوين الشتات المسيحي المشرقي في الغرب. وهذه الهجرة تعود لأسباب ديموغرافية، وسياسية، واقتصادية مجتمعة. نمت في القرن التاسع عشر تيّارات مهاجرة راحت تتّسع أكثر فأكثر.

وتدور أيامنا وتكثر في أوراق نعواتنا أسماء الدول التي هاجر أقرباؤنا إليها …

انتقل المسيحيون في نعواتهم من “المهجر” إلى تفصيل دول هذا المهجر … إلى السويد وكندا وفنزويلا وفرنسا وأميركا وغيرها.

اليوم، وبعد أكثر من عشرة سنوات من هجرة إجبارية، بدأت تظهر ملامح جديدة لدى المسيحيين في حلب.

بدأت أقرأ – ودائماً في حلب – أوراق نعوات لحضور صلوات ستقام في كنائس عدّة لراحة أنفس الموتى الذين ماتوا في المهجر ولم يتبقّ هنا منهم إلا قريب يطلب أولاد الميت منه إقامة مثل هذه الصلوات في مدينتهم الأم.

إن هذه الأجيال من المسيحيين السوريين، التي ولدت في المهاجر أو انتقلت إليها بسبب الأزمة، لم يعد يربطها ببلدانها إلا بعض الاعتبارات العاطفية والميتولوجيات الجماعية والروابط العائلية والهوية الكنسية على تنوّع مندرجاتها.

إننا نرفض أن نموت بأجسادنا فقط، بل نموت بما تبقّى لنا من ذكريات وعواطف.

نقيم الصلوات في حلب لكي نتأكّد من موتنا العاطفي وموت ذكرياتنا.

نريد أن نرقد في قبور المهاجر، وندفن ذكريات أرصفتنا التي لعبنا عليها، ومشينا عليها، وجلسنا عليها.

نريد أن نرقد وننسى حنفيات الماء في مدارسنا التي طالما شربنا منها.

نقيم الصلوات للذين ماتوا في المهجر ولم يبق لهم سوى من يتذكرهم قليلاً ويتذكر بيوتهم ومكاتبهم وعياداتهم ودكاكينهم وأحزانهم.

أوراق النعوات هنا، لموتانا في المهجر هناك، هي خطّ الدفاع الأخير عن تشبّثنا بذكرياتنا واعتذارنا لحلب.

أوراق نعواتنا تفضح عشقنا لتراب سورية

اللهم اشهد أني بلّغت

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني