المسحراتي تراث وروحانية تتحدى التكنولوجيا
يعتقد بعضهم أن عمل مسحر رمضان لم يعد يحظى
بالكثير من الاهتمام والتألق في المجتمع كما في السابق، وذلك بعد انتشار وسائل
التنبيه الحديثة مثل الهواتف الجوالة والساعات المنبهة الإلكترونية لدرجة أن بعضهم
يعتبره مصدراً للضجيج والإزعاج وخاصة بعد أن تغيرت التركيبة السكانية اليوم في
معظم المدن والقرى ما اضطر المسحراتي أن يصبح أكثر مرونة مع الحالة الجديدة في
استخدام أكثر من لغة في مدن الشمال السوري منادياً على الناس معلناً وقت السحور لإرضاء
الجميع. هذا وقد عرفت مهنة المسحراتي في البلاد الإسلامية منذ وقت طويل وتعتبر من
العلامات الروحانية المميزة لشهر رمضان المبارك إذ كان الخليفة (الحاكم بالله)، أول
من خصص راتباً معيناً للرجل الذي يقوم بهذه المهمة من الدولة حيث كان المسحر يطوف
الأحياء ويقف أمام البيوت منادياً على سكانها، منشداً بصوت جميل، داعياً إياهم
لتناول السحور.
استقبل السوريون هذا العام شهر رمضان
المبارك في ظل ظروف قاسية لا تختلف عن سابقاتها من الذكريات الأليمة وصعوبات
المعيشة والفقد، بالإضافة إلى الحجر الصحي داخل البيوت بسبب جائحة كورونا وقد أصبح
ليل رمضان في عينتاب مختلفاً، رغم التشابه الكبير في التفاصيل بين المجتمعين السوري
والتركي ولكن طبل المسحراتي في عينتاب كان شيئاً آخر لم يعهده السوريون من قبل، وقد
بدا المسحر لهم وكأنه يخوض حرباً ضروساً مع سكان الحي النائمين، حيث أن كل ضربة
على طبله تفجر قنبلة صوتية تجبر النائم على القفز من سريره فور سماعها دون تردد. في
تلك اللحظة يتبادر إلى ذهنك التساؤل كيف يمكن أن تكون ذكريات من عانوا كل هذه الآلام
والخيبات وكيف تتبلور مشاعرهم خلف تلك الجدران الصماء التي تشاركهم صوت الطبل في
ليل موحش… مثلاً ماذا يفكر زوجان وحيدان في الحجر الصحي بسبب (فيروس كورونا) بعد
لجوء أولادهم الى بلاد بعيدة وكيف يعدون الأيام في شوق إلى اللقاء يوم العيد؟ وكيف
تتوق أم هاجها الحنين لعناق ابنها المعتقل منذ سنوات؟ وماهي أمنية رجل مسن هائم بالرجوع
إلى أرضه التي غرسها زيتوناً وتيناً وانتظر الموسم تلو الآخر ولم يأت بعد. أما
بالنسبة لي، كانت ذاكرتي مختلفة الهوى، أرادت أن تختصر ما مضى مع كل ضربة على طبل المسحراتي،
رجعت خطوات متسارعة دون قصد مني إلى أيام الطفولة، حيث كنت في السادسة من العمر أقضي
معظم وقتي في بيت جدي لأمي، في حي (ساروجة) الحي الأرستقراطي الذي بناه القائد
المملوكي (صارم الدين ساروجة) في القرن الرابع عشر الميلادي وكان أول حي يشيد حول
المدرسة الشامية خارج السور القديم لمدينة دمشق. كنت شغوفة معظم الوقت بالجلوس خلف
الخص الخشبي للنافذة المطلة على الشارع الرئيسي في الطابق الثاني للبيت، بالركن الممتد
بزاوية قائمة للخارج ما يتيح لي أن أرى آخر الشارع الطويل، وما يجري به بوضوح. كان
صوت المسحراتي في الليالي الرمضانية يأتي من بين الحواري الفرعية البعيدة، وبعد
دقات ثلاث منتظمة على طبلته الصغيرة (البازة) التي كان يقطعها بعبارة “يا نايم
وحد الدايم، ياغافلين وحدوا الله” بصوت متوسط الشدة، فيكرر أولاده المرافقين
له أحيانا ما قاله من العبارات والأناشيد مهللين. كان يقف عند كل باب، يقرعه
بمدقته الحديدية المدلاة فوقه، ثم يتابع السير منادياً بعض أصحاب البيوت الذين
يعرف أسمائهم، إذ لم يكن يغيب عن ناظري إلى أن يصل بيت جدي فأهبط السلم عند
اقترابه، وأخرج مسرعة أحمل وعاءً من النحاس ملأته جدتي بالطعام والحلوى وغلفته بقطعة
قماش بيضاء، تمتد يداي بالوعاء فيأخذه شاكراً داعياً لأهل المنزل ويغادر.
لم تكن مهنة المسحراتي حكراً على الرجال
في زمن ابن طولون، حيث امتهنت المرأة التسحير في القرن التاسع الميلادي وكان يشترط
أن يكون صوتها جميلاً وأن تكون معروفة لأهل الحي، أما نحن لم نعتد يوماً على رؤية
امرأة تعمل في مهنة التسحير إلى أن تعرفت على المرأة المصرية دلال التي ورثت مهنة
التسحير عن أبيها منذ سنوات وتحديداً في حي (المعادي) العريق في مدينة القاهرة. المسحراتية
دلال محبوبة من قبل الجميع ورغم أنها تعمل كل أيام السنة في ورشة كي للملابس لتعيل
عائلتها بعد وفاة زوجها، ولكنها في شهر رمضان تمارس المهنة المحببة إليها، وهي
التسحير، وتنطلق كل ليلة تدعو الناس للسحور بصوتها الجميل، تقول منشدة كلمات سيد
مكاوي “هاتوا الفوانيس يا ولاد هاتوا الفوانيس، هنزف عريس يا ولاد هاتوا
الفوانيس” فتطل عليها النساء من النوافذ لتسلم عليها وتؤنسها مشجعة ومستمتعة
بصوتها العذب. لقد تحدت دلال كل المفاهيم الذكورية التي خضعت لها المرأة تاريخياً
وأثبتت أن إنسانية الإنسان لا تقبل الزيادة والنقصان ولا التفاوت والتفاضل.
لاشك أن المسحراتي طقسٌ تنفرد به الذاكرة الرمضانية
ليس لدى السوريين فحسب بل في كل الدول العربية، بالرغم أن كل شيء أصبح قابلاً
للتغيير، لكن تبقى الرموز والأعراف والتقاليد أحياناً متجذرة تأبى أن تنكفئ، ماذا
عن مهنة المسحراتي ومستقبله بعد أن تحدى الحجر الصحي والتكنولوجيا المتطورة؟ هل
بات أفول مشهد المسحراتي قريباً في الليالي الرمضانية، أم ستبقى عباراته المحببة
“يا نايم وحد الدايم” مع طبلته تخترق الحواري والشوارع عطشى للطقوس والتراث
الموغل في القدم.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”
روعة المقالة فعلا فيها استيفاء كامل
نحنا هون بالمانيا شتقنا لنسمع قوت المسحراتي !! مشكورة استاذة غادة ! نص جميل ويعكس الواقع .