المجتمع الأهلي والمجتمع المدني
يجب أن نميّز أولاً بين غريزة القطيع؛ وهي سلوك فطري غريزي عند الحيوان، والدافع الاجتماعي وهو مكتسب ويتطور بتطور التجربة الإنسانية والجماعة والمجتمع، ويعكس خبرة الفرد وضرورة الاجتماع مع باقي أفراد جنسه لتأمين حاجاته الأساسية وضمان حياته من الهلاك بالدفاع المشترك ضد الطبيعة وحيواناتها.
المجتمع الأهلي:
فالمجتمع الأهلي محكوم بروابط ومحددات أولية تحيل الإنسان فيه إلى انتماءاته الأولية التي لا إرادة له فيها، وتجعله يعمل في الوقت نفسه، على ترسيخها وتقويتها بما يتعرض له من عمليات تنشئة اجتماعية متولدة من عمل مؤسسات أهليه أو حكومية تعيد إنتاج عناصر انتماءاته، وترتب أولوياتها بما يخدم توجهات هذه المؤسسات.
المجتمع الأهلي له مقوماته وخصائصه ومكونات وجوده وآليات الدفاع عن هذا الوجود.
تتكامل هذه المقومات للمحافظة على وجوده، والعمل على إقصاء ما يعطل توجهه، ويستعمل في عملية الإقصاء هذه شتى أنواع العنف وصولاً إلى القتل الرمزي بهدر الدم.
المجتمع الأهلي بتفاعل الموروث مع خصائص العصر، لم يعد مجتمعاً أهلياً، كما كان، لأن مقوماته لم تعد قادرة على الثبات في وجه رياح التغيير ولا على تلبية متطلبات الحياة الحديثة، ولم يتحول في الوقت نفسه إلى مجتمع مدني بخصائص ومتطلبات وعناصر وجود جديدة.
لذلك خسر المجتمع الأهلي نفسه، ولم يحظ بانتمائه المدني فالمجتمع المدني كمفهوم ينهض على عناصر أساسية، أولها الشعور والوعي بالانتماء إلى المجتمع والدولة بوصفهما دائماً في طور التشكل من الوجهة المعيارية؛ وثانيها المراقبة والمساءلة بما تتيحه الديمقراطية كنظام حكم ومنهج سلوك. فأصبح معوقاً للحياة السلمية المتحضرة، ومعوقاً لبناء المجتمع المتمدن والمتطور الذي يؤكد دور المواطن من حيث الحقوق والواجبات ويحتكم الجميع للقانون.
الفرق بين المجتمع الاهلي والمجتمع المدني:
هناك فروق لا حصّر لها بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني، فمن ناحية الانتاج، ومن ثم علاقات الإنتاج، يرتبط المجتمع الأهلي بالإنتاج الصغير (عائلي، أبوي، للاكتفاء الذاتي)، أما المجتمع المدني فمرتبط بالإنتاج الكبير والموسع سواء أفقياً أم عمودياً.
تختلف أهداف المجتمع الأهلي بسعيه لتعزيز هيبة العشيرة والطائفة والعائلة والقومية، بينما المجتمع المدني يهدف لتعزيز وتطوير الحياة السلمية التي تمثل حاجة لمجتمع المدينة لغرض تطوير إنتاجيته وازدهاره. بيئة المجتمع الأهلي (ريف، صحراء، جبال) قاسية وخشنة، بينما بيئة المجتمع المدني مدينة كبيرة بشوارعها وبناياتها واتصالاتها، منظمات المجتمع الأهلي بدائية بينما المدني متطورة، سواء تم الحديث عن الروابط أم الجمعيات أم الاتحادات أو حتى النوادي، الطب الأهلي شعبي بينما الطب والعلوم في المدني أكاديمي ويحتاج الى الترجمة والتأليف والعلاقات الدولية والسفر والبعثات، وفنون المجتمع الأهلي الشعبية من ربابة ورسم وغيرها مرتبطة بصناعة بدائية (جلد، خشب.. إلخ) ولا تعتمد على الدراسة، بينما الفن المدني أكاديمي وتعليمي من الناحية الفكرية نجد المجتمع الأهلي لا يستطيع إنتاج أكثر من الأمثال والحكم الشعبية، بينما المجتمع المدني من أولى إنتاجياته العلوم والفلسفة وبصدد مفاهيم المجتمع الأهلي فهي متخلفة بالنسبة لمفاهيم المجتمع المدني، فنراها تعتمد على الخشونة والفروسية والثأر والنخوة بينما المجتمع المدني مفاهيمه متطورة إلى حد بعيد: السلام والتكاتف والإنسانية والطرافة والصداقة والتعاون والقانون.
الأدب في المجتمع الأهلي هو الأساطير والخيال الشعبي وتنتشر به الخرافة والغيبيات وهو عادة شفهي والعلوم لم تأخذ صفتها الشعبية بعد، بينما المجتمع المدني مدارس أدبية ومذاهب والتفكير الشعبي والرسمي علمي بعيد عن الخرافة والمعجزات.
تقاليد المجتمع الأهلي سمتها الأساسية المحافظة والتمسك بالموروث وتقديسه في بعض الأحيان، أما المجتمع المدني جدلي واقعي متطور ويعمل للتطوير ولا يمكن أن يتوقف المجتمع المدني مثل الأهلي إلى سقف محدد متوارث عادة، وموقف المجتمع الأهلي من المرأة متزمت وسلبي عادة، أما المدني فإيجابي، وهذا أيضاً مرتبط بشكل معين بمستوى تطور القوى المنتجة والاعتماد على القوة الجسدية.
تكاتف المجتمع الأهلي تحكمه مصالح عشائرية، طائفية، عائلية، أما في إطار المجتمع المدني فهو تكاتف مدني متطور.
المجتمع الأهلي يعتمد بحل مشاكله على العرف الاجتماعي ولا يميل إلى صياغة دساتير أو قوانين عامة، بل هو لا يرغب بتشكيل دولة إلا القومية منها أو الطائفية… الخ.
المجتمع الأهلي بيئة مناسبة لتطور الإشكالات (ومنها الحرب الأهلية) بينما المجتمع المدني لا يوفر مثل هذه الأجواء أو على الأقل يضعفها ولا يشجع عليها.
المجتمع المدني:
المجتمع المدني كمفهوم ينهض على عناصر أساسية هي باختصار:
- الشعور والوعي بالانتماء إلى المجتمع والدولة. (المواطنة) هي أساس الانتماء المشترك للناس جميعاً على اختلاف انتماءاتهم الفرعية فهي تتصدر الانتماءات جميعاً دون أن تلغيها.
- المراقبة والمساءلة بما تتيحه الديمقراطية كنظام حكم ومنهج سلوك بما يضمن الحقوق والواجبات والعمل بموجبهما حسب ما تقتضيه المواطنة ويفرضه الحس المدني في العلاقة مع الذات ومع الآخر.
مما لاشك فيه أن تنظيمات المجتمع المدني هي تنظيمات (وضعية) وليست (طبيعية) فهي من صنع الإنسان وتقوم بناء علي حاجته إليها، وتختفي أو تستبدل عندما تنتفي حاجة الناس إليها أو وجدوا حاجة في استبدالها.
لذلك فهي تنظيمات آنية مرتبطة بالحاجة وفي نفس الوقت ليست أزلية ولا دائمة فهي تخضع لقوانين التطور الاجتماعي، وهي تشمل قطاعاً واسعاً من الأنشطة تبدأ بمجال الخدمات بمختلف أنواعها وأشكالها من صحية وثقافية، وتنتهي بالمجالات السياسية التي تختص بها عادة الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى، والتجانس بين الأفراد القائم على مؤسسات المجتمع المدني أمر ضروري ومطلوب.
ينطوي مفهوم المجتمع المدني على ثلاثة مقومات أو أركان أساسية:
الركن الأول: هو الفعل الإرادي، فالمجتمع المدني يتكون بالإرادة الحرة لأفراده، والركن الثاني هو التنظيم الاجتماعي، فالمجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات وكل تنظيم فيها يضم أفراداً أو أعضاء اختاروا عضويته بمحض إرادتهم الحرة، أما الركن الثالث للمجتمع المدني فهو ركن أخلاقي سلوكي.
لابدّ من التذكير بفكرة هامة وضرورية، تلازم المجتمع المدني بالديمقراطية أي لا مجتمع مدني بدون ديمقراطيه، ولا مجتمع مدني في ظل الحكومات المستبدة، مجتمع مدني يعني ديمقراطية والجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات يحتكمون للقانون، وتعمل مؤسسات المجتمع المدني باستنهاض الطاقات للإبداع والتآلف وتأمين الحاجات وحماية المواطن والدفاع عنه.