المثقف بين مواكبة الزمن ونوسان الرؤية
يعد المثقف – وهو هنا مثال الإنتلجنسيا – من أكثر الذين يتم إخضاع موقفه إلى البارومتر القيمي، حيث السلب، والإيجاب – وهما المتناقضان كحدين أقصيين – ومن بينهما موقع الحياد الذي كاد يستهلك، من كثرة استخدامه كمصطلح سياسي، حيث كل شيء يقوم به، مرصود من قبل الآخرين، وكأن من حوله، بالمعنى الواسع: المجتمع – المؤسسة – السلطة – التاريخ، ما هم إلا مجرد آلة رقابة صارمة تحسب عليه، كل ما يصدر عنه، ليس من خلال الإنتاج الإبداعي، العلمي، فحسب، وإنما حتى من خلال الحديث العابر، على نطاق الجلسة الرسمية، أو غير الرسمية، بل وقبل كل ذلك، ما يدلي به إلى أي من وسائل الإعلام المقروء منها، أو المسموع، أو المرئي، وكأني به – هنا – يسير في وسط حقل إشارات موزعة بين ضوئي السماح واللاسماح، أو بنحو أدق “حقل ألغام”، فهو خاضع – بهذا الشكل أو ذاك – للمساءلة أنى حل، ولعل خطورة نوع المساءلة التي يواجه بها، أنها عابرة الزمن، عابرة الجغرافيا، عابرة النظرية، عابرة الرؤيا.
وقد يفهم من مثل هذا الكلام، أن هناك دعوة مبطَّنة من المثقف، أن يتخذ موقفاً متحجراً من كل ما يحيط به، على حساب إعمال العقل، وهو ما يتم – عادة – من خلال الالتزام بالموقف الأحادي، ضمن سياق النظرية، لا سياق التحول التاريخي، حيث نكون – في المقابل – أمام محاكمة من نوع آخر، وهو ضرورة مواكبة صيرورة الزمن، حيث ثنائية: الجمود/التغيير، وكلا المصطلحين، لا يمكن تزكيتهما من دون قراءة وتحليل ملابساتهما، ضمن كلا النسقين، المتناقضين، لاسيما وأن الاستغراق في أي منهما، خارج ارتباطه بشروطه، ليعني ممارسة العسف الذي يؤدي إلى حدوث خلل كبير، طالما عانت منه المدارس الفكرية المتناقضة، ولا يفهمن من هذا الكلام، أن الجمود مسوغ، بل ثمة ما قد يتماهى بالجمود، بيد أنه مجرد تجل لقانون طبيعي، ولعل في تقويمنا للقتل، بأنه سلوك مدان، وأن الانحياز للحياة، سلوك سام، يبين أننا أمام مفهومين، قد يراهما أحدنا أنهما ينتميان إلى خانة ما هو “ثابت”، بيد أن الأمر ليس كذلك، فإن الكثير من أمات القيم المتدرجة بين السلب والإيجاب، هي عصارة تجربة بشرية طويلة، ولا يمكن أن نسلم بمقولة إبادة الكائن الإنساني – جرياً وراء متطلبات الخروج من شرنقة الانغلاق – مادام أن الوفاء للقيم الأخلاقية العليا، من أسس ما هو مطلوب من الكائن العاقل، وهو يحتكم في فهمه الحياتي معتمداً على ثنائية: الجانب المضيء من التجربة البشرية، بالإضافة إلى خلاصة قراءة الإنسان العاقل للحظة، بل ولا يمكن استبعاد تصور اللحظة المقبلة – ذاتها – في مثل هذا المقام.
إن مواكبة البرهة الزمانية – المشار إليها على عجل أعلاه – لا يكون إلا نتيجة قراءة عميقة من قبل الكائن/الجماعة، حيث أن أي هروب إلى الماضي، بما يشكله من كاريزما، وقوة، وقناعة، وطمأنينة، خارج إطار ما هو مسلم به، لا يعد كافياً حتى في حال صحته، مادامت دورة الزمن في صيرورة وسيرورة دائمتين، لاسيما وأن من شأن فضائه – عبر تفاعله مع الفضاء المكاني، واعتبار الكائن الحي، من يعطي عبر تفاعله في هذه اللوحة، جدوى هذين الفضائين، ويرسم ملامحهما – جزئياً وكلياً – وإن كانت رحلة كشفه لا تنتهي، حتى وإن كان قد وضع إصبعه، على بعض القوانين الكبرى التي صارت من عداد ألفباء “أبجدية الحياة”. ويعدُّ الموقف من هذه الثنائية، أساس تقسيم الرؤية والموقف.
وبعيداً عن مثل هذه الثنائية، تكمن زئبقية ذلك المثقف، المختلف عن الأنموذجين السابقين، حيث يكاد لا يستقر على رأي واحد، إذ يعد الشريط الزماني لديه عبارة عن جملة مواقف متناقضة، إما بسبب ضعف الرؤية، أو انعدامها لديه، وتأثره بما له من سطوة وبريق، من دون أن يتمكن من الظفر بقراءة صحيحة، وهذا ما يتجلى على نحو أشدّ في المنعطفات التاريخية، حيث تكون هناك قوتا خير وشر، تقدم كلتاهما مسوغاتها، وقد تستعين قوة الشر بأدواتها المموهة، الغاوية، التي تزين خيارها، مقابل تقبيح قوة الخير، وتخطئتها، وهو ما يمكن أن يوقِّع المثقف في فخاخه، ما لم يكن مسلحاً بالأدوات اللازمة التي تجعله يستطيع تفكيك ما يلتبس عليه، والانطلاق من الواقع، بعيداً عما يربك اللوحة، ويزوِّر المعطيات، ما قد يحدث منذ بداية “الربيع العربي” وحتى الآن، حيث تشوّه صورة الضحية، وتجمّل صورة القاتل، وهو ما توسعت دائرته، ما أدى إلى ما يسمى بالتباس الرؤى.
وإذا كان هذا النموذج يشكو من ضبابية الرؤية، أو قصورها، فإن هناك – على عكس حالته – ذلك “المثقف” الذي تمكنه قدراته من التمييز بين الخيطين: الأبيض والأسود، بيد أنه يتعامى عن قراءة اللوحة الواضحة، ويرضى بالدخول في “لعبة التزييف”، غير مكترث بما قد يلحقه خطابه ليس بسواه، بل بمصداقية خطابه، وشخصه، وهو يقوم بكل ذلك، مدفوعاً بعامل المنفعة، أو تحاشي الاصطدام بالسلطة، على اعتباره من النوع الذي يخسر في المواجهة، حيث أن ما يقوم به، من مجافاة للواقع، يهدم أي إرث شخصي، فيما إذا كان قد بناه.
هذه الحالات الثلاثة، التي توقفنا عندها، ليست مجرد أطوار في حياة المثقف الواحد، وإن كان باب التحول لدى المثقف مفتوحاً، في ظل دأبه، وحفره، واجتهاده المعرفي، إذ يمكن التدرج من انغلاق الرؤية، إلى انفتاحها، إلى ضبابيتها، وزئبقيتها، في تطور طبيعي، على ضوء التفاعل المعرفي، ورصيد التجربة، بيد أن لوثة الزئبيقة التي قد تظهر لدى المثقف، فإن البرء منها لن يأتي – سهلاً – وإن كان هو في – أصله – امتداد لفايروس قديم، دخل في إطار التربية، والثقافة، والسيرة الحياتية لدى من يصاب به، ومن هنا، فإن أصل أية ردة، أو اعوجاج، عن جادة الحقيقة، والواقع، لا يمكن التخلص منهما على نحو عابر، وبمجرد قرار، أو توقيع، أو حتى توبة لفظية…!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”