الليرة التركية في مناطق الشمال السوري، الأسباب والنتائج
مع استمرار تدني سعر صرف الليرة السورية، واقتراب موعد تطبيق قانون “قيصر” الذي فرضته الإدارة الأمريكية على النظام السوري، وفي محاولة لتجنب سلبيات موجة الغلاء التي اجتاحت تفاصيل الحياة اليومية البسيطة لحوالي أربعة ملايين سوري يقيمون في مناطق الشمال المحررة، وسعيا للحد من الآثار الاقتصادية الكارثية عليهم في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي يعانون منها جراء نزوحهم من مناطقهم، سارعت الحكومة السورية المؤقتة، والمجالس المحلية، والمؤسسات الإدارية العاملة في تلك المناطق إلى اعتماد التعامل بالليرة التركية رسمياً عوضاً عن الليرة السورية، وذلك بهدف تأمين أبسط مظاهر الحياة اليومية والحفاظ على القوة الشرائية للمواطنين، وحماية ممتلكاتهم ومدخراتهم من الانهيار التام مع استمرار تهاوي العملة السورية التي وصل سعر صرفها مقابل الدولار إلى 3500، وهو ما لم يخطر على بال أكثر الاقتصاديين تشاؤماً، فيما لايزال البنك المركزي السوري يحدد سعر صرف الدولار بـ 700 ليرة!
الحكومة السورية المؤقتة قبل أن تُقر العمل باستخدام الليرة التركية، قامت بإجراء دراسة لمؤشر أسعار السلع الأساسية خلال الشهرين الماضيين، حيث اتضح ارتفاع الأسعار بنسبة تصل إلى حوالي 44% وفق الليرة السورية، بينما حافظت الأسعار على قيمتها بالعملة التركية، وهو الأمر الذي شجعها على اتخاذ قرار التعامل بالليرة التركية والسعي لتوفير الفئات الصغيرة منها لتكون في متناول أيدي المواطنين، مؤكدة أن ذلك التوجه ليس دائماً، وإنما هي خطوة مؤقتة، لحين استقرار سعر صرف الليرة السورية، واستردادها عافيتها مرة أخرى.
ورغم ذلك الإيضاح الذي لا لبس فيه، إلا أن ذلك أثار ثائرة المتربصين بالشعب السوري، وثورته، المتجاهلين لمعاناته، هؤلاء الداعمين لوجود نظام آل الأسد على رأس السلطة في البلاد رغم أنف أبنائه الرافضين العيش تحت سلطة نظام ديكتاتوري يعُد عليهم أنفاسهم، ويعاملهم كمواطنين درجة ثالثة، عليهم واجبات مُلزمة، وليس لهم أية حقوق لديه.
إذ اتهم الموالون لبشار الأسد أعضاء الحكومة السورية المؤقتة بالعمالة والخيانة العظمي، والعمل على تكريس الوجود التركي الذي وصفوه بـ “الاحتلال”، رغم أن التعامل بالليرة التركية في مناطق الشمال السوري ليس وليد اليوم، وإنما يجرى العمل به منذ عام 2017 تحت سمع وبصر نظام بشار والموالين له داخلياً وخارجياً، حيث يتم دفع رواتب العاملين في المنظمات الإنسانية والجمعيات الخيرية ومقاتلي الجيش الوطني بها، الأمر الذي ساهم في سهولة العثور عليها لدى محال الصرافة، ناهيك عن أن الحكومة التركية لم تقر أصلاً العمل بعملتها رسمياً داخل المناطق السورية المحررة، إلا أنها غضت الطرف عن ذلك منذ البداية مراعاة للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السوريون، وهو الأمر الذي لم تلتفت إليه أبواق النظام الإعلامية، ولم توليه أدنى اهتمام يذكر، ولم نسمع أحداً منهم يتحدث عن خطورة ذلك على الاقتصاد السوري حينذاك.
كما أننا لم نر رد فعل يذكر لهؤلاء على ما قامت به تركيا من أعمال لتحسين مستوى الخدمات في المناطق المحررة للمساعدة في تيسير حياة المواطنين واللاجئين المقيمين بها، حيث تم اعتماد خدمات البريد التركي الذي وفر الاتصالات وعمليات الشحن والصيرفة، وما أقامته من مشروعات الكهرباء، وعمليات ترميم المدارس التي هدمتها الحرب وإعادة تأهيلها لإتاحة الفرصة أمام أبناء الشعب السوري لاستكمال تعليمهم في مراحل التعليم المختلفة.
ولم نسمع لهم صوتاً عندما قامت العديد من الشركات التركية الخاصة بخلق واقع استثماري جديد في ريف حلب الشمالي، واهتمامها على وجه الخصوص بإقامة المشروعات التي توفر الخدمات الرئيسية للسكان، إلى جانب مشاركتها في دعم قطاعي الشرطة العسكرية والمدنية المحلية، عبر آليات التدريب والتأهيل للقيام بمهمة الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة.
وفي إطار محاولاتها الرامية إلى توفير ملاذ آمن للمقيمين واللاجئين السوريين، سعت تركيا كذلك إلى إقامة مشروعات سكنية عملاقة في إدلب تستوعب الكثير من الأعداد ممن فقدوا مساكنهم واضطرتهم ظروف الحرب إلى العيش في مخيمات تفتقر في مجملها إلى أبسط مظاهر الآدمية والخصوصية.
إلا أن كل تلك الخدمات الرامية لتحسين المستوى المعيشي للملايين الفارين من جحيم الحرب، ومحاولة توفير الحد الأدنى للاستقرار الاقتصادي لهم لم تلفت نظر أبواق النظام السوري الإعلامية، التي اعتادت غض الطرف عن الحقائق الساطعة مثل الشمس، كحقيقة أن عدم ثبات سعر صرف العملة من شأنه خلق حالة من فقدان الثقة في تلك العملة، والسعي إلى إيجاد سوق صرف مواز للسوق الرسمي للدولة، وتوقف معظم الأنشطة الاقتصادية.
كما تجاهلت في تحليلاتها السبب الرئيس وراء التدهور الحاصل في قيمة الليرة السورية، والذي يرجع في المقام الأول إلى سلسلة السياسات المالية المتضاربة لبشار الأسد، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر القانون رقم 3 الذي حدد التداول المالي اقتصادياً وتجارياً في العملة السورية دون غيرها من العملات، الأمر الذي عطل تماماً عجلة الاقتصاد، وتسبب في خواء خزينة البنك المركزي السوري من العملات الأجنبية الرئيسية، وأزمته الداخلية مع رامي مخلوف، وتهديد الأخير بعواقب وخيمة على الاقتصاد السوري إذا لم يُحل الخلاف مع شركاته، ناهيك عن قيام النظام بإجراء زيادات وهمية في رواتب العاملين بالدولة، الأمر الذي أسفر عن ارتفاع جنوني في أسعار السلع الرئيسية، وأثقل كاهل المواطنين وتسبب في سقوط الكثيرين منهم تحت خط الفقر والعوز.
ترك هؤلاء كل هذه الأسباب المدمرة لأي اقتصاد في العالم، وصبوا جام غضبهم على تركيا، التي اتهموها بالعمل على إفقار الاقتصاد السوري، ولم ينس هؤلاء في خضم تبرير قرارات الأسد الاقتصادية الفاشلة، الحديث عن تأثيرات العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، والتي توجتها واشنطن بقانون “قيصر” الذي سيتم بدء تفعيله في القريب.
فإذا كان الحال كذلك ولم يتم بعد تفعيل قانون ” قيصر” والعمل بموجب بنوده، فماذا سيكون عليه الوضع بعد بدء تطبيقه فعلياً؟!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”