fbpx

الليبراليّة الاجتماعيّة واللاّعنف

0 150

لاحظ أينشتاين في برقيّته التي أرسلها إلى فرويد عام 1931 أن (القانون والقوّة يسيران جنباً إلى جنب). ذلك أن القانون الذي هو إرادات مجتمعة بطبيعة الحال يضعه المنتصر فـ (من ينتصر تنتصر إرادته)، وربّما كان أينشتاين يريد استثارة فرويد للرد على سؤال جوهري: لماذا الحرب يا فرويد؟

فرويد، المتعمّق في نظريّة النشوء والارتقاء، في يقول ردّه: (إنّه لمبدأ عام أن تسوّى صراعات المصالح بين البشر عن طريق العنف، وهذا أمر ثابت في مملكة الحيوان..). لذلك لم يجد فرويد أنّ من الطبيعي توقّف الحرب، بل الطبيعي ألا تتوقّف، وبعد سرده للطبيعة المتوحشة للإنسان، يكرر فرويد السؤال بصيغة الاستنكار: لماذا نريد إيقاف الحرب؟!

لا شك أن موقف الفلاسفة وعلماء الاجتماع الطبيعيين ليس مشجّعاً في موضوعة طبيعة الإنسان الخيّرة التي بنى عليها جون لوك (ت 1704) أصل مذهبه في الحريّة والمساواة، بعد إعادة قراءة للموروث الديني، بل لعلّهم كعلماء يؤمنون بوحدة العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة من جهة، وبطبيعة المادة المتصارعة ديالكتيكيّاً من جهة أخرى، أكثر قرباً من موقف هوبز حول وحشيّة الإنسان!

ومن ثمّ فلا غرابة أن تختلط الدعوات إلى الحريّة، من جهة كونها حق طبيعي يؤمّن رفاهيّة الإنسان، بدعوات موازية، تبدو متوتّرة من موضوعة الحريّة باعتبارها حجّة تبرّر توحش القوي ضدّ الضعيف.

لكن هل كل الليبراليّات رأسماليّة؟!

لا شك أن الحديث هنا مفاهيمي، يتناول فهمين اثنين، لا واحداً، للحريّة، ولا شك أنه مهمّ في سياق الحديث عن الليبرالية الاجتماعيّة وعن مذهب اللاعنف معاً، إذ لا تستند الليبراليّة الاجتماعيّة في مبررات وجودها على العلم الطبيعي، بقدر ما تتكئ على ضرورة إعادة قراءة الموروث الاجتماعي، قراءة أكثر قرباً من واقع الإنسان المعاصر، وكذلك هي وسيلة الدعوة إلى اللاعنف عند بعض علماء الدين.

رحم الله المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد، الذي وافته المنية في ساعة متأخرة من يوم السبت، 29 يناير/كانون الثاني 2022، في مكان إقامته بتركيا، عن عمر ناهز الـ (91) عاماً.

ولعلّ وفاته، رحمه الله، قد أتاحت المناسبة لإعادة الحديث عن مذهب اللّاعنف الذي كان يتبنّاه جودت سعيد، والذي كان سبباً في اتّخاذ الشيخ، وغيره، موقفاً قلقاً تجاه وسيلة العنف، لا تجاه استحقاق التغيير، انطلاقاً من موقف مسبق يدعو إلى اللاعنف، مقابل ما رأى الشيخ أنه “دعوة إلى العنف”.

يقول تعالى على لسان ابن آدم: (لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، لأني أخاف الله ربّ العالمين).

ويقول المسيح: (من ضربك على خدّك فاعرض له الآخر أيضاً، ومن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً).

فعلى مثل هذه النصوص المقدّسة يبني مذهب اللاعنف ذاته، في مواجهة تنافسيّة صراع، ربّما يكون من أهم مصادرها مذهب النشوء والارتقاء، فيؤيّد اللاعنف آليات العمل السلمي، ويؤكّد على أن التغيير الحقيقي هو ما ينتجه العمل السلمي، لا القوّة.

ربّما يمكننا القول: إنّ اللاعنف، من حيث كونه توجّهاً فكريّاً، أقرب ما يكون إلى الليبراليّة الاجتماعيّة كمذهب سياسي واجتماعي، حيث الليبراليّة الاجتماعيّة تركز على حماية حرية الفرد من تأثير السرديّات الأيديولوجيّة الكبرى، فيما يشجّع مذهب اللاعنف على إعادة قراءة الموروث قراءة واقعيّة حيّة تكسر نمطية تلك السرديّات.

كذلك فالليبراليّة الاجتماعية تسعى إلى ترسيخ مفاهيم التسامح، والمساواة، بينما تعتاش السرديّات الكبرى على ترسيخ حدود هويّاتيّة قائمة على عدم التسامح، وعدم المساواة، ولمّا كانت الليبراليّة الاجتماعيّة، لا تسعى إلى مخاصمة الإنسان، بل إلى تحريره من أسوار السرديات الايديلوجية، فإن الوصول إلى تحريره لابد وأن يتقاطع مع اللاعنف باعتباره الوسيلة الأكثر نجاعة، للوصول إلى ذلك الإنسان، وتمكينه من هدم أسوار خوفه بيديه.

يبدو الفرد خائفاً متوتراً داخل أسوار السرديات الأيديولوجية، مرتاباً من موضوعة الحريّة، يسعى إلى التخفيف من توتره، وريبته، بدعم مصادر القوّة، فيما تؤكّد الليبراليّة الاجتماعيّة على حقّه كفرد، وعلى استقلاليته، ويسعى مذهب اللاعنف إلى حث الإنسان على عدم الّلهاث خلف مصادر القوّة، ذلك أنّه يمكنه الوصول إلى تحقيق أهدافه بوسائل سلميّة، ومن ثمّ تتقاطع الحريّة مع السلميّة بين اللاعنف وبين الليبراليّة الاجتماعيّة.

وربّما يتقاطعان في مكان آخر كذلك، إذ إن الليبراليّة الاجتماعيّة قامت أساساً على القراءات الإنسانية، غير المؤدلجة، للتراث، مثل تلك التي قام بها جودت سعيد، أو الأب “باولو دالوليو” وغيرهما، والتي مارس الإنسان من خلالها فرديّته في إعادة قراءة التراث، وتقديم الجديد من خلال ممارسة الحريّة الفرديّة المبدعة بشجاعة، المقابلة للنمطيّة الأيديولوجيّة.

من التراث، بكونه بعداً فكرياً قابلاً لإعادة الإنتاج، تُمكّن الليبراليّة الاجتماعيّة لأدواتها، وتؤكّد على احتواء حركيّة الإنسان، وأنسنه التنافس، بإدارة الحريّة إلى ما يخدم نشوء وارتقاء إنسانيّين، لإحداث تغيير يمكن أن تعمل على إنتاجه المجتمعات من خلال وسائل سلميّة محلّية.

الليبراليّة الاجتماعيّة كتيار سياسي، واللاعنف كتوجه فكري، كلاهما يستقيان من التراث الأدوات التي يمكن أن تساعد الحاضر على التغيير، وكلاهما يؤمنان بقدرة الإنسان، باعتباره أداة التغيير، ومادته.

لا شكّ أنّ الدعوة إلى اللاعنف دعوة إنسانيّة كريمة، كما أن الحريّة حق إنساني، لذلك فإنّ على الباحث في وسيلة (اللاعنف) أن يراعي، أثناء بحثه، الإشارة إلى حق الدفاع عن النفس، بوصفه حق إنسانيّ طبيعي، يراعي طبيعة الإنسان البشريّة، أو فإنّنا سنتّهم العين إن هي رمشت أمام المخرز بالعنف!

ربّما يمكننا القول أيضاً: إنّ مما يدعم مسارَ اللاعنف هو أهمّية البحث عن فاعل العنف، لا بهاجس كيد المدين، بل برغبة الباحث عن الحقيقة، ثم البحث كذلك في الثقافة المنتجة، لتجاوزهما لا لتقليدهما، خاصّة وأن الدّعوة إلى الحريّة – كما يشير شعار الثورة – يدعم مقولاتٍ تتنافى والعنف، وقد عبّر عنها ثوّار الورد بوجه القوة العسكريّة التي كان يرسلها لاجتياح المدن السوريّة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني