الليبرالية
تعددت الآراء والأقلام التي تناولت مفهوم الليبرالية بالتعريف والمعنى وفلسفتها وبعدها الفلسفي وعلاقتها بالمفاهيم الأخرى المرتبطة بها كالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والدستور وغير ذلك من المفاهيم والمصطلحات، والكل بل الجميع ينطلق من مفاهيم مرجعية وفلسفية مختلفة ومع اختلاف المرجعيات قد يتفق الجميع على أن الليبرالية تقوم على الإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه بالحياة وحرية الاعتقاد والضمير وحرية التعبير والمساواة أمام القانون ولا يكون هناك دور للدولة في العلاقات الاجتماعية، فالدولة الليبرالية تقف على الحياد أمام جميع أطياف الشعب ولا تتدخل فيها أو في الأنشطة الاقتصادية إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد وتؤكد مبدأ تكافؤ الفرص وتعمل على ترسيخ الديمقراطية منهجاً وسلوكاً ووعياً وناظماً لعلاقات الناس فيما بينهم من جهة وبين الناس ومؤسسات الدولة من جهة أخرى.
حيث تعمل الديمقراطية الليبرالية على تكريس سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام وذلك للتعبير عن إرادة الشعب واحترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وأن تخضع هذه السلطات للقانون من أجل ضمان الحريات الفردية وللحد من الامتيازات الخاصة ورفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات لكي تكون هذه المؤسسات مُعبرة عن إرادة الشعب بأكمله.
ويَظهر التقارب بين الليبرالية والديمقراطية في مسألة حرية المعارضة السياسية خصوصاً ومنحها بالقانون فرصتها بالنجاح والعمل بكل الطرق السلمية تحت مظلة الدستور الديمقراطي المنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان والشرعة الدولية ومواثيقها، فبدون الحريات التي تحرص عليها الليبرالية فإنه لا يمكن تشكيل معارضة حقيقية ودعايتها لنفسها وبالتالي لن تكون هنالك انتخابات ذات معنى ولا حكومة منتخبة بشكل ديمقراطي إلا إذا كانت مستندة للمبادئ السابقة.
ومع ذلك فالليبرالية لا تقتصر على حرية الأغلبية فحسب بل هي في الواقع تؤكد على حرية الفرد بأنواعها وتحمي بذلك الأقليات وبذلك هنا تخالف الديمقراطية التي تعطي السلطة للشعب وبالتالي يمكن للحكومة أن تحد من حريات الفرد بحسب ظروف المجتمع وتحوّل نظام الحكم إلى ما يدعى بالديمقراطية اللاليبرالية.
ويرى بعضهم أنه من الممكن وجود ليبرالية بدون ديمقراطية كاملة أو حتى بوجود السلطة بيد حاكم فرد وهو النظام الذي يعرف بالأوتوقراطية الليبرالية.
وما يهمنا هنا ما تسمى الليبرالية الاجتماعية، ليبرالية دولة الرفاه والعدالة، التي ترى أن من واجب الدولة توفير فرص العمل، والرعاية الصحية والتعليم وكل ما يتعلق بحقوق الإنسان الاجتماعية والإنسانية والسياسية كما تدعو الليبرالية الاجتماعية إلى احترام الحرية الفردية والتسامح مع تشديدها على «الحرية الإيجابية»، التي تهتم بقدرة الأشخاص على المشاركة في العمل، وتعتبر أن حق العمل لا يقل أهمية عن حق التملك، وحق أجر مناسب على العمل حيث يُسمح بالملكية الفردية لوسائل الإنتاج مع تنظيم الدولة للسوق بما يحقق التنافس الاقتصادي العادل وتقليل نسب التضخم وتقليل البطالة وتوفير الخدمات الاجتماعية مثل التعليم والضمان الصحي وتوفير متطلبات حقوق الإنسان، وتوظف عناصر من الرأسمالية والاشتراكية معاً لتحقيق موازنة بين الحرية الاقتصادية والمساواة بما يخدم العدالة الاجتماعية.
أي أن الليبرالية الاجتماعية تقع بين الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية فهي ترفض الاقتصاد الرأسمالي المطلق الذي لا يحق فيه بتاتاً للدولة التدخل في الملكية الخاصة (نقطة خلاف مع الليبرالية الكلاسيكية) بينما تقبل بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (نقطة خلاف مع الاشتراكية) لكن مع دعمها حق الدولة في التدخل لتحقيق مصلحة الأقل انتفاعاً من الحرية الاقتصادية.
ويمكن أن ندرك الاختلاف بين الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاشتراكية أيضاً من خلال عرض الفرق بينهما فكلاهما يحتل موقعاً وسطاً بين الرأسمالية والاشتراكية.
فيمكن القول، إن الليبرالية الاجتماعية قد خرجت من رحم الليبرالية الكلاسيكية (الرأسمالية المطلقة) وأصبحت أكثر اشتراكية، بينما خرجت الديمقراطية الاشتراكية من رحم الاشتراكية الثورية التي تعتقد بصراع الطبقات وأصبحت إصلاحية وأقل بعداً عن الرأسمالية.
وقد ظهرت بعض الأحزاب الليبرالية الاجتماعية نتيجة الاندماج بين أحزاب ليبرالية وأحزاب الديمقراطية الاشتراكية (أو الاجتماعية)، مثال ذلك حزب الديمقراطيين الليبراليين (أو الديمقراطيين الأحرار) في بريطانيا الذي نتج عن اندماج الحزب الليبرالي مع حزب الديمقراطيين الاشتراكيين أو الاجتماعيين.
وعلى درجة من الأهمية التنويه، أن أخلاق الليبرالية الاجتماعية تُعارض التسلط وتُعادي الاستبداد وتبحث بسبل إشراك البشر في صناعة القرار والتركيز على الديموقراطية والخريطة الاقتصادية والاجتماعية، كما تشجع على إنشاء المؤسسات التي تهتم بالتوفيق بين الحرية والمساواة وبخاصة عن طريق تأسيس إعادة التوزيع أي توزيع الثروة، توزيع الإنتاج بعدالة مع حرصها على زيادة قدرات الفرد.
وتقودها نظرية المعرفة إلى معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية انطلاقاً من دراسة الحقائق نفسها حتى لو كانت هذه الوقائع غير سارة (نظرية الحقائق الصعبة)، هذا يؤدي بهم إلى أن يكونوا أكثر استقرائية عن طريق التحليل المكثف للمعطيات، التي استحوذت على جدال طويل وعميق وقد جادل فيه الكثير من الاقتصاديين بطريقة استنتاجية.
وفي الختام وعلى ضوء التطور الكبير في كل شيء حولنا، ألا يحق لنا أن ننظر لما وصَلنا من أفكار ونظريات على أهميتها بقدسية؟.