تبدو الدعوات إلى الانسحاب من اللجنة الدستورية، وهي إحدى سلال القرار الدولي 2254، على قاعدة أن النظام السوري لن يفاوض بشكل جدي، وأن القرار الدولي المذكور هو قرار غير ملزم لطرفي التفاوض.
صحيفة نينار برس أرادت إضاءة وضع اللجنة الدستورية، وموقف أطراف مختلفة منها ومن وظيفتها، فكان هذا التحقيق.
الحكم الانتقالي مدخل القرار 2254
سألنا الحقوقي نادر جبلي عن رأيه حول اللجنة الدستورية، والدور التفاوضي الموكل لها، فأجاب:
– لا تعوز نظام الأسد الحجة والوسيلة للتخلص من الاستحقاقات المترتبة عليه بموجب القرار الأممي 2254، فقد سبق أن تم توجيه الضربة القاضية لهذا القرار وتفريغه من مضمونه من قبل الروس، بغض نظر دولي خبيث، عبر تقسيم خطواته المتسلسلة والمترابطة إلى مسارات مستقلة، واختراع فكرة السلال الأربع، ثم المباشرة بالسلة الدستورية دون المرور بالسلة الأولى، سلة الحكم الانتقالي، التي هي المدخل الطبيعي والإجباري لتطبيق القرار، والتي بدونها سيصبح القرار بلا أي معنى، وسيجعل العمل على السلة الدستورية محكوماً بشروط النظام وإملاءاته، وبالتالي إما أن نكون أمام نتائج تلائم النظام وتخدم مصلحته، أو تتحول اللجنة إلى سيرك للتهريج وتضييع الوقت، وهذا ما نراه بالفعل.
وسألنا السيد نادر جبلي: ألا ترون أن الانسحاب من المفاوضات سيجعل المعارضة بلا غطاء أممي؟ فقال:
– أما عن الغطاء الأممي للمعارضة، الذي يوفره انخراطها في أعمال اللجنة الدستورية، فتلك لعمري كذبة كبيرة صفيقة ومكشوفة، ومن يصدقها يستحق الشفقة فعلاً، فالانخراط في هذه العملية السامة هو من يُفقد المعارضة، عملياً، غطاءها الأممي الحقيقي المتمثل بالقرار 2254، واللجنة، أو بالأصح، قبول المعارضة الانخراط بأعمال اللجنة، هو الذي رفع الغطاء الأممي عن المعارضة، لأنه أعفى العالم من التزاماته التي يوجبها ذلك القرار. أقول بصيغة أخرى إن انخراط المعارضة في أعمال اللجنة الدستورية هو الذي يمنح الغطاء للعالم للتحلل من التزاماته وليس العكس، ولولا هذا الغطاء لكان العالم محرجاً أمام التزاماته تجاه القرار 2254. أما الآن فلا حرج طالما أن صاحب الحق هو الذي تخلى عن حقه.
وحول اقتراحاته حول أفضل شروط للتفاوض، يقول جبلي:
– أفضل الشروط للتفاوض هي التمسك بالحقوق التي يوفرها لنا القرار الأممي 2254، وبدون أي تفريط، فلا لجنة ولا مفاوضات ولا مسارات ولا سلال ولا طناجر، هناك هيئة حكم انتقالي تمسك السلطة وتوفر البيئة الملائمة لإعداد دستور تجري على أساسه الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وهناك إجراءات لبناء الثقة، على رأسها إطلاق المعتقلين، أو على الأقل المباشرة بإطلاق أكثرهم هشاشة كالأطفال والنساء، وهذه الحقوق معطاة بالقرار 2254 والقرارات التي بني عليها، كبيان جنيف والقرار 2118، ولا لوم على من يتمسك بها، ولا مخرج إلا بالتمسك بها. وإلا فنحن نقول للنظام والروس والإيرانيين: نحن بأمركم، فصلوا ونحن نلبس.
أما ما يتعلق بضرورة إيجاد دعم من الحاضنة الشعبية للثورة، ودعم أصدقاء الثورة السورية يرى جبلي:
– دعم على ماذا؟ على هذه المسخرة وهذا التفريط؟ ندعمهم على تخليهم عن قرار أممي لا نملك غيره؟ أم ندعمهم على منحهم الغطاء اللازم والوقت الكافي للروس لتصفية الثورة وإعادة تسويق وتثبيت النظام؟ أم ندعمهم على هذه النتائج الباهرة التي حققتها جولات المفاوضات الست؟
– على اللجنة، حتى تستحق الدعم، أن تصر على تطبيق القرار 2254 كاملاً وفق منطوقه وتسلسله، وأن تعلق مشاركتها في أعمال اللجنة ريثما يتحقق ذلك. وليس لديها ما تخسره من ذلك، أما البقاء على هذه الحال فهو خسارة صافية للمعارضة وللسوريين وقضيتهم، وربح خالص لأعدائهم.
ضرورة توازي السلال الأربع
يقول محمد زكي الهويدي نائب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي: الدستور مهم بوجود معادلة سياسية جديدة على الأرض، من خلال توازي السلال الأربع، واعتبار سلة الحكم أولوية للانتقال السياسي، وتحرك سياسي للمعارضة السورية مع الفاعلين الدوليين والإقليميين، للخروج من الوقت المفتوح للمفاوضات.
ويوضح الهويدي الأمر فيقول: هناك ضرورة لتبيان حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها السوريون، والمطالبة بتنفيذ الاستحقاقات الإنسانية والسياسية التي نصّت عليها قرارات الأمم المتحدة، والعمل على إشراك القوى المجتمعية في الداخل والخارج في كل محطات العملية الدستورية، من خلال عقد ورشات عمل ولقاءات عبر شبكات التواصل الاجتماعي واستخلاص مقترحات وتوصيات، تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني لمعرفة رأي الناس وأخذ موافقتهم ورضاهم.
لكن الهويدي ينظر إلى وجود اللجنة الدستورية من زاوية أخرى حيث يقول: طُرحت اللجنة الدستورية في مؤتمر الحوار الوطني، الذي رعته روسيا في سوتشي في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2018، بغرض صياغة إصلاح دستوري، يسهم في التسوية السياسية، التي ترعاها الأمم المتحدة، وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254.
ويضيف الهويدي: عُقدت خمس جلسات منذ تشرين أول/أكتوبر 2019 بدون أي تقدم في أعمالها، مع عدم وجود سقف زمني للمفاوضات.
ويوضح الهويدي رأيه فيقول: الرافضون والمطالبون بالانسحاب من اللجنة الدستورية لا يدركون أن لا خيار مطروح أمام المعارضة سواها، وأن حجم الهوامش المتاحة للتحرك في ظل هذا الواقع ضيقة، وتبقى اللجنة الدستورية هي النافذة الوحيدة للاتصال مع العالم، وإبقاء القضية السورية حية، وعند الانسحاب تبقى بلا غطاء أممي، وتكون حقّقت للنظام ما يريد.
وقف التفاوض يعني خدمة التشدّد
يقول مهند دليقان وهو عضو في حزب الإرادة الشعبية، وممثل عن منصة موسكو في اللجنة الدستورية في إجابته عن سؤالنا: “ألا ترون أن نظام الأسد ينتظر موقف انسحاب المعارضة من المفاوضات، والذي يطالب به متشددون: من غير الصحيح برأينا اعتبار أصحاب دعوات الانسحاب بأنهم جهات ثورية، والأصح كما يقول دليقان، إنها دعوات تأتي من متشددين ضمن المعارضة، وهم ممن ساعدوا متشددي النظام طوال السنوات العشر الماضية عبر رفضهم للحوار وللحل السياسي، ودعوتهم للتسلح والتدخل الخارجي.
ويرى دليقان أن “الذين يدعون إلى الانسحاب من المفاوضات يريدون تقديم خدمةً لمتشددي النظام للقفز فوق 2254، وأحلامهم هي إنهاء التفاوض وإنهاء 2254 لإبقاء تقسيم الأمر الواقع، لعل وعسى يصلون إلى التقسيم الفعلي”.
ويضيف دليقان في إجابته عن سؤالنا حول أفضل الاقتراحات بخصوص تفاوض أفضل: “هناك ضرورة فعلاً لتغيير إحداثيات عمل اللجنة ككل، حتى تتمكن من إنجاز مهامها”. وبرأيه: “الإحداثيات الجديدة المطلوبة تتكون من شقين، عام: هو إعادة تثبيت كون الدستورية جزءاً من حزمة متكاملة، هي القرار 2254، وعلى رأسه تشكيل جسم الحكم الانتقالي، الاتفاق على تعريفه وصلاحياته ومصدره وشخوصه”.
الشق الثاني كما يقول دليقان: “خاص باللجنة نفسها، وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تعديل تركيب اللجنة، بحيث تضم المستبعدين السوريين، أما القسم الثاني: وهو ما أثار خلافات كبرى بين قوى المعارضة ورفضته أغلب القوى باستثناء منصة موسكو، يقول دليقان إنه يتعلق بنقل أعمال اللجنة الدستورية إلى دمشق، بوجود الضمانات اللازمة من الأمم المتحدة لأعضائها، لإنهاء الانفصال بين الواقع السوري وبين العملية السياسية، ولإنهاء محاولات التلاعب التي يقوم بها المتشددون من الطرفين وفق ما يقوله دليقان.
أما القسم الثالث برأي ممثل منصة موسكو في اللجنة الدستورية مهند دليقان فيتعلق بـ “النقل المباشر المتلفز لأعمال اللجنة، ليعلم السوريون ماذا يقول أولئك الذين يدعون تمثيلهم”. مضيفاً: إن تحرك الشارع السوري وتنظيمه لنفسه هو عامل ضروري للحل السياسي”.
المفاوضات مع النظام لا جدوى لها
يعتقد مروان الأطرش وهو رئيس المجلس المركزي للكتلة الوطنية الديمقراطية: “أن الأصل ليس في كتابة دستور جيد، بل بإمكانية وآليات تطبيقه”. لذلك يجد الأطرش “أن المفاوضات مع النظام لا جدوى منها، خصوصاً أن المعارضة المشتتة والمشكّلة بتوافقات دولية، لا تملك من أمرها شيئاً، حتى أقل عوامل القوة الذاتية، التي تؤدي إلى اكتساب نتائج إيجابية”.
ويرى الأطرش: “أن فصل مسألة لجنة الدستور عن بقية السلال الأخرى، التي تضمنها قرار 2254، جعلها أقرب إلى بحث أكاديمي، لا إلى قرارات تنفيذية، تتضمن نصوصاً وآليات تطبيقية توصلنا إلى نظام بديل”.
ويشرح الأطرش فكرته بصورة أوضح فيقول: “أقصد هنا الفترة المرحلية لانتقال السلطة، التي تعتبر أحد ركائز الحل الذي تضمنه القرار 2254″. فبرأيه هذا أدى إلى فلتان نظام الأسد عملياً ليسرح كما يشاء، ذلك حين تجزأت السلال والقرارات”.
ويعتقد رئيس المجلس المركزي للكتلة الوطنية الديمقراطية، أن الغطاء الأممي للمعارضة حبر على ورق، يتغير وفق مصالح مراكز القوى المؤثرة فيه.
من جهة أخرى يرى الأطرش أن شروط التفاوض الجديدة المقترحة ليست جديدة، فقد بدأت بمقررات جنيف الأولى، لتنتقل إلى القرار 2254، ثم إلى تفاهمات سوتشي، التي أنجبت برأي الأطرش ولداً ميتاً اسمه اللجنة الدستورية، مضيفاً: أن المرحلة الحالية تغلب عليها إدارة الأزمة لا إيجاد حل لها، نظراً لتعدد وتناقض المصالح الدولية والإقليمية، وحالة الاحتلال المركب على الأرض، الذي يزيد الأمر تعقيداً.
عمل المعارضة هو المشكل
وطرحت نينار برس سؤاليها على الكاتب محمود الوهب وهو صاحب دار نون 4 للنشر والدراسات، فأجاب: “المشكلة ليست في اللجنة الدستورية، ولا في عدم إنجازها شيئاً مما يطمح إليه السوريون، لكنها في مجمل عمل المعارضة، ومنه تفريطها بذلك الزخم الثوري الذي ملأ شوارع المدن السورية وساحاتها على مدى شهور، وواجه رصاص النظام وقناصاته بصدور عارية”.
ويضيف الوهب: “اليوم لم يبق للمعارضة غير النضال السلمي، ولديها مما يمكن الاعتماد عليه الكثير، وخصوصاً أنها كلها في الخارج، ومعها الكثير من المنظمات والطاقات الفردية، القريبة على نحو أو آخر من حكومات في دول اللجوء، ويمكنها أن تستثمر ما يجري في الداخل السوري، لا الوضع المعيشي الذي يعيشه السوريون فحسب، بل استمرار النظام في توحشه ضد السوريين سجناً واعتقالات وتغييباً.
ويرى الوهب أن النظام لا يزال يسهّل عمليات النهب والسيطرة على الاقتصاد السوري من قبل الإيراني والروسي وأثرياء الحرب الجدد، وانعدام الأمن، وانتشار المخدرات زراعة وتجارة وترويجاً لها في الداخل، ولهذا لابدّ للمعارضة من تكوين نواة صلبة، لها صوت سوري قوي موحد وواضح، ولغته مفهومة لدى الفاعلين في العالم.
ويعتقد الوهب أن القوي هو من يستطيع فرض الشروط، وأن المعارضة ليست في موقع القوة، رغم ما لديها من إمكانيات كبيرة ومتعددة، فما قامت من أجله الثورة كما يقول الوهب لم ينعكس في برامج المعارضة ولا في خطابها، وخاصة الخطاب المتطرف منه.
الوهب الذي ينظر للواقع بعين المراقب يرى أن ما أفقد المعارضة صوتها السياسي الواضح هو استكانتها لذلك، وانعدام المبادرة والركون إلى الدعة في مغترباتها، وإلى ما تتلقاه من دعم لا ينفق غالباً على برامج محددة لإنجاح الثورة، كل ذلك أضعفها، وقوّى جانب النظام.
ويرى الوهب أن على المعارضة أن تعيد حساباتها، فثمة نواقص وعقد لدى النظام خصم الشعب، الّذي يتشوّف على الجميع.
الروس اختطفوا القرار 2254
وسألت نينار برس عضو اللجنة المركزية لحزب اليسار الديمقراطي السيد مصطفى دروبي حول اللجنة الدستورية، فأجاب: “كلنا يعلم أن نظام الأسد اعتاد الهروب إلى الأمام، واللجوء للمماطلة والتسويف وحرف المسارات، فهذا النظام لا يزال يتلقى دعماً دولياً متعدد الأشكال”.
ويرى دروبي أن النظام مدرسة بالتزوير والاحتيال والمناورات، ولذا وبعد أكثر من سنتين على انطلاق اللجنة الدستورية، اختطف الروس القرار الأممي وأفرغوه من محتواه، لمنع تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات.
ويرى دروبي أنه وبعد مرور سنوات على بدء التفاوض، يجب أن تنسحب المعارضة مما سماه لعبة مكشوفة، لأن لا جهة دولية جادة ووازنة ترغب بوضع حد لجرائمه، وأنه مغطى على القل في المدى المنظور على كل ما ارتكبه من جرائم موصوفة.
لكن دروبي يعتقد أن وفد المعارضة لا يملك هامش مناورة واسع، وحسب رأيه الأمر يتعلق بتبعية هذا الوفد للمحاور الإقليمية، واحتكاره منذ البداية للمشهد السوري.
ويضيف دروبي: أن الشعب السوري فقد الثقة، وأن الوضع الإقليمي والدولي ذهب بعيداً بدفع الحالة السورية نحو الاستنقاع، وجعلها تنوس بين عدم الاستعجال الأمريكي للحل، وعبث الروسي والإيراني بمصير سوريا والسوريين.