fbpx

اللاعنف بعد الأسد: خيار للضعفاء أم ضرورة حتمية لبناء سوريا جديدة؟

0 49

بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، واليوم وبعد سقوط الأسد ووسط ما تبقى من ركام وطن يتجدّد سؤال اللاعنف، لا بوصفهِ شعاراً مثالياً بل كخيار سياسي واستراتيجي لا غنى عنه في مرحلة ما بعد سقوط النظام.

كثيرون يطرحون اليوم: هل يمكن أن يكون اللاعنف مجدياً أمام حجم القتل والظلم؟ لماذا لا نردّ على الاستبداد والإجرام بالقوة ذاتها ما دمنا نمتلك الآن الحقّ والمظلومية والدعم الشعبي؟

لكن الحقيقة المرّة التي علينا مواجهتها بوضوح هي أنّ العنف لم يكن يوماً طريقاً آمناً نحو العدالة، بل غالباً ما كان أقصر الطق للوقوع في براثن استبداد جديد. والتجارب التاريخية من إيران إلى الجزائر، ومن ليبيا إلى اليمن تؤكّد أنّ العنف يُجهِز على كلّ ما تبقى من فرص لبناء الدولة، ويعيد تدوير القهر بأسماء جديدة وشعارات مختلفة.

اللاعنف ليسَ استسلاماً، بل فعل تفكيك ذكي

غالباً ما يُساء فهم اللاعنف باعتباره (سلبيةً) أو (خنوعاً)، لكن في الحقيقة اللاعنف هو مقاومة نشطة ومدروسة تهدف إلى تفكيك بنية القهر بكاملها وليس رأس الهرم فقط.  استخدام السلاح أسقط الأسد نعم، ولكن هل أسقط الاستبداد كبنية؟ هل سيمنع نشوء نخبة جديد تُقمَع باسم الثورة؟ وهل يمنع تصفية الحسابات والانتقام وتهميش الأقليات والنساء؟

اللاعنف وحده هو الذي سوف يعيد توجيه الغضب نحو البناء، نحو مؤسسات عدالة انتقالية ومجالس مدنية محلية، وآليات مساءلة شفافة، وتربية سياسية جماعية تقوم على الحوار لا على الرصاص.

من منطق الغَلَبة إلى منطق العقد الاجتماعي

في سوريا حيثً تغذّت السلطة لعقود على الطائفية والقمع الأمني، نشأَ وعي جماعي مشوّه يُمجّد القوة ويخلط بين العدالة والانتقام، لذا فإنّ اللاعنف في هذا السياق لا يُعدّ فقط مسلكاً أخلاقياً بل ثورة على العقلية التي أنتجت الاستبداد وشرّعته.

العنف ما بعد نظام الأسد المخلوع سيعني أنّ كل طائفة أو فئة أو حزب سيُنشئ ميليشياه الخاصّة بدعوى جماية مجتمعه أو استرداد حقوقه، وهذا سيقودنا إلى صوملة المشهد السوري لامحالة. بينما اللاعنف سوف يضع حجر الأساس لعقد اجتماعي جديد يُخرِج الناس من منطق التحالفات المسلّحة إلى منطق الحقوق والمواطنة والمؤسسات.

طريق أصعب، لكنه الوحيد القابل للحياة

أجل، اللاعنف طريق طويل ويحتاج إلى نَفَس طويل وتنظيم دقيق وصبر سياسي ومجتمعي، لكنه الطريق الوحيد الذي لا يُعيد إنتاج العنف باسم الثورة. الطريق الذي لا يقصي أحداً بل بدعو الجميع إلى طاولة الحوار: الإسلاميين والعلمانيين، العرب والكرد، السنة والعلويين والدروز والمسيحيين وكل مكونات الشعب السوري، الرجال والنساء، الناجين والمتورطين التائبين.

سوريا الجديدة لا تحتاج إلى منتصر جديد بل إلى من يتخلّى عن منطق الانتصار أصلاً ويبدأ ببناء وطن لكلّ أبنائه.

بعد الأسد: لحظة تاريخية لاختبار الشجاعة الأخلاقية

في لحظة ما بعد سقوط النظام وقفنا جميعاً على مفترق طرق: إمّا أن نكرّر مآسي الأمس بأدوات جديدة، أو أن نكون شجعاناً بما يكفي لكسر الحلقة واختبار الطريق الأصعب والأجدى.  اللاغنف ليسَ ترفاً نخبوياً ولا استعراضاً أخلاقياً، بل هو الوسيلة الوحيدة لبناء دولة لا تقتل أبناءها، ولا تجعل النساء والضعفاء وقوداً لمعركة جديدة.

إذا كان الأسد قد بنى نظامه على الأبد، فلنبنِ نحن سوريا على الحقّ والحرية والسلام العادل، وهذه لا تأتي إلا من طريق اللاعنف مهما بدا صعباً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني