
الكابتن
لم تتمكن الأمطار الخفيفة التي سقطت للتو من إيقاف حركة الأولاد الفوضوية في الشارع الفرعي الذي يتصل بالطريق العام. أضفت رائحة المطر على الجو المحيط عبقاً خاصاً يذكر الناس بأمطار الخريف القليلة من كل عام.
أصوات الأولاد تترامى إلى آذاننا، وكأنها صخب وعبث بلا معنى، وهناك عدد من منهم يلعبون ويتحدون بعضهم بعضاً بأهداف يسجلونها في الكرة التي تتدحرج على الأرض. نزلتُ من البيت سيراً على الأقدام. المسافة بين بيتي وبين الطريق نحو مئتي متر. شاهدت الأطفال يلعبون الكرة، يتحركون بقوة وسعادة في مساحة ضيقة لا تكفي لملعب صغير. مرت الكرة من أمامي، فقطعت حركتها وأوقفتها، ثم دفعتها ذات اليمين وذات الشمال ورفعتها قليلاً ورميتها بقدمي خلفي كلاعب ماهر، لتعود الكرة إلى الأطفال، الذين راقت لهم مهارتي، فصاحوا بفرح:
– هي ي ي ي. أنت الكابتن. العب معنا كل يوم..
ضحكتُ، ومشيتُ نحو الموقف. مضت دقائق قبل أن يصل الميكرو، وخلال هذه الدقائق نظر اثنان منا إلى عقارب الساعة، وكأنهما ينتظران شيئاً ما، وقد فاجأت الكرة التي يلعب بها الأولاد رأس أحدهما فأصابته وكادت ترميه أرضاً. صاح الرجل مخاطبا الأولاد:
ــ أنتم قليلو التربية، وإلا كنتم الآن في بيوتكم تتابعون واجبات المدرسة اليومية.
مر طفل بجواره بسرعة البرق، وتناول الكرة التي تهادت عند حافة الرصيف واختطفها بسرعة وعاد إلى جماعته يتابع اللعب. مسح الرجل رأسه، وهمس يخاطب نفسه: “ما في خواص.. جيل والعياذ بالله!”.
جاء الميكرو. كان فيه عدد من المقاعد الفارغة، فركضنا نحوه لحجز أماكننا، وانتقيت مكاناً لي في آخره كي لا تضايقني حركة الصعود والنزول، وكان قد بقي مقعدان خاليان عندما هم السائق بالانطلاق من جديد وجاء صوتها مستنجداً:
– على مهلك يا أخي.. على مهلك!
تمهل السائق. وصعدت المرأة بسرعة غريبة، وهي تلهث، فسألها:
– إذا كنت تريدين وسط المدينة فانتظري ميكرو آخر.
جاء صوتها:
– مجنون، ورح يجنني. امش يا أخي. امش!
صاح السائق:
– أنا المجنون؟
لم تلتفت إليه. عادت إلى إلحاحها:
– امش.. امش!
مشى السائق على مضض، وتعالت ضحكة من المقعد الخلفي. وقال أحد الركاب:
– حال الناس لا تسر صديق.
لم يتفاعل أحد من الركاب مع التعليق، لكن الرعب واجههم عندما اصطدمت بالميكرو، كرة الأطفال من جديد، وكادت تكسر النافذة. هتف السائق:
– يا لطيف، مثل القذيفة!
وصاح من النافذة:
– أولاد العرص.. أليس لكم أهل ليربوكم؟!
وجاء صوت المرأة:
– امش يا أخي. امش!
ومشى الميكرو، فألحت المرأة:
ــ استعجل.. ها قد وصل المجنون. استعجل قبل أن يراني!
التفت الجميع إلى خارج الميكرو. كان هناك رجل أشعث الشعر. يبحث بعينين تقدحان الشرر عن شيء ما، ثم فجأة التقطت عيناه الميكرو وقد دارت عجلاته وشق طريقه نزولاً مبتعداً عنه.
التفتُّ إلى المرأة، حدقتُ بها، كان وجهها رمادياً، غار الدم منه، خائفة ترتجف، وكأنها تترقب أحداثاً جسيمة ستحدق بها، كانت نحيلة الجسد، ارتدت ملابس عادية مخلوطة الألوان، وقد غابت ملامح جمال قديم من وجهها.
فتح السائق مسجلة الميكرو على أغنية شعبية لـ سارية السواس، وراحت الأغنية تشغلنا عن التفاصيل التي مرت قبل قليل:
“بس اسمع مني يا للي مجنني
أنا المتعذب وأنت المتهني..”
سار الميكرو نحو مئة متر، فطلب أحد الركاب النزول، فتوقف السائق، وفتح الباب وأنزل الراكب، ثم أغلق الباب.
فجأة، وكان الميكرو قد همّ بالسير، واجهنا رجل غاضب يشهر بيده سكيناً حادة، رفعها في وجه سائق الميكرو، وأمره بالوقوف:
– عليك بالوقوف أحسن ما أعمل بوجهك خريطة!
توقف الميكرو.. لم نفهم نحن ما الذي دفع الرجل ليهدد السائق، لكن المرأة أعادتنا لخوفها، فصاحت برعب:
– دخيلكم… هذا هو المجنون زوجي!
عدنا من شرودنا. انسحبت الخيالات التي رافقتني حول دعوة الأطفال لي لأصبح كابتن فريق الكرة الذي يجمعهم، لأول مرة أتعرف على الفزع في وجه امرأة تخاف من زوجها الغاضب، ازداد اللون الداكن فيه، وارتسمت ملامح إنسان ينتظر حكم الإعدام. حكتْ كلاماً غير مفهوم:
– سيقتلني لامحالة.. أعرف جنونه.. يارب خلصني!
ارتبك السائق.. قال له:
– خير شو القصة؟!
صاح الرجل وهو يدور باتجاه باب الميكرو:
– لا علاقة لك بالأمر.
وعندما وصل إلى الباب ارتفع صوته من جديد:
– افتح الباب يا كلب!
صاحت المرأة:
– لا تفتح الباب!
وتعالت أصواتنا:
– لا تفتح الباب.. لا تفتح الباب!
وجاء صوت الرجل الغاضب من خارج الميكرو، وهو يحاول خلع الباب:
– افتح الباب يا كلب!
فتح السائق الباب، واندفعت المرأة إلى الداخل باتجاهي، فدخل الرجل الميكرو، وإذا بالركاب يفرون من أمامه، ثم فرّ السائق، وبقيت أنا في آخر مقعد وقد احتضنتني المرأة مستنجدة بي كي أخلصها.
انهال الرجل عليها بالسكين، فأصابها بعدة طعنات في ظهرها وذراعها، وقد عجزت عن التحرّك أو حتى ردعه بالكلام..
حاولت المرأة الخروج من النافذة، لكن طعنة جديدة أصابت ساقها، أوقفتها عن المحاولة، فجمد جسدها فوقي، وسال دم كثير على ثيابي.
كان صوت الأغنية يتردد مع الصراخ الذي بدأ يخفت:
“بس اسمع مني ياللي مجنني
أنا المتعذب وأنت المتهني..”
سحب الرجل جسد زوجته، ورماه على الأرض قرب الميكرو، وبقيت وحدي مذهولاً في المقعد الأخير، وعندما حضرت الشرطة وشرعت بالتحقيق عجزت عن شرح وقائع ما حصل!
بعد يومين، وكانت الأمطار الخفيفة تتساقط كعادتها وكانت أصوات الأولاد في صخبها اليومي، مررت قربهم كانوا يلعبون بحيوية بالغة، وتدحرجت الكرة قربي، فجاء صوت الأولاد:
– هي ي ي ي.. ها هو الكابتن.. ها هو الكابتن..
قذفوا الكرة نحوي، ورأيتها تتدحرج عند قدمي، ورأيتهم ينظرون إليّ باندهاش عندما تهادت الكرة أمامي وتوقفت ولم أحرك ساكناً، تماما كما فعلت عندما طعنت المرأة فوق ركبتي!