القمع متبادل والتكفير لادين له
يظن بعض الناس أنّ بُعدَنا عن تعاليم الدين الحنيف هو سبب ما نحن فيه من ضعة وهوان، والحل يكون بالتزام تعاليم الدين.
ويظن آخرون أنّ الغرق في غيبيّات الدين والدعوة الخرافيّة إلى بناء دولة دينيّة، أو دولة تستند إلى الدين، هي المشكلة، ويكمن الحل بإعادة النظر في تراثنا الفكري وخلخلة الثوابت لدينا بهدم طرائق تفكيرنا وإعادة بناء الفكر الحر بعيداً عن إرادة السماء.
ليس جديداً ما نعانيه على صعيد الفكر فقد عاناه أجدادنا، وجُلدوا وسُلخت أجسادهم تكفيراً عن رأي قالوا به أو اجتهاد أفشوه.
كان الإصلاحيون المسلمون في بداية إرهاصات النهضة العربية الحديثة يقومون بدور المدافع عن الإسلام في وجه التحدي الغربي. وكان هدف الإصلاح حماية المجتمع الإسلامي، لذلك كافح لإعادة تأسيس الحقيقة وتقويتها من دون تعريضها للنقد. وقد شددت الإصلاحية على أن أصل الانحراف ليس في الإسلام بل في المسلمين. فأغلق هذا القول الباب بوجه نقد العقيدة، ووضع العلماء كناطقين رسميين باسم الدين، في مواقع القيادة. وهكذا، باعتبار المسلمين مخطئين، تعززت سلطة العلماء فانتحلوا دور قيادة حركة التغيير. لقد أرسى الفكر الإصلاحي الاعتقاد أن في الإمكان تطبيق نظرية الإصلاح بفعالية بموافقة النظام القائم وتأييده. لكنّهم في تحديد نوع العلاقة بأوروبا وقعوا في خلافات حادة، فاتجه الأفغاني للمطالبة بالعودة إلى العصر الذهبي للإسلام والابتعاد عن أوروبا. أما محمد عبده فقد قبل بمبدأ الاستعارة، على أن يترافق الإصلاح الدنيوي مع الإصلاح الديني، كذلك كان رأي رشيد رضا. تمسكت النزعة الإصلاحية، على صعيد المنهجية، بالأسلوب التقليدي القائم على مبدأ التفسير اللغوي. إذ كان جُلَّ الاهتمام منصبّاً على إعادة فتح باب الاجتهاد. وإن اعتبار أمر ما معقولاً لم يتحدد في إطار موضوعي وتجريبي، بل وفق المعنى اللغوي الصرف. كان من الممكن أن تحصر النزعة الإصلاحية في مبدأ الاستعارة لولا إدراكها للتهديد الأوروبي، ورد فعلها تجاهه. وبما أنه لابد من اتخاذ الموقف، أخذت النظرية الإصلاحية على عاتقها الدفاع عن الإسلام مهما كان الثمن. وتحصيل الفائدة الاجتماعية. لذلك حاول العلماء التوفيق بين النظرية والممارسة، وحين فشلوا، أقروا بالتناقض الأصلي وبوجود مستويين للتفكير منفصلين، الأول يتعلق بالممارسة اليومية، والثاني بالمبدأ والعقيدة. ولم يكن أمامهم من مفر سوى التسليم بالقدرية من خلال طرحهم لفكرة أن الحرية والضرورة منسجمان. فلا يمكن، والحالة هذه، تفسير الاتجاه الإصلاحي في الإسلام على أساس صيغة العقلانية المنطقية، ومن الضروري الالتفات إلى المصادر العاطفية التي أعطت الأيديولوجية الأصلية سماتها. ومن ذلك يُلاحظ غياب أيّ محاولة للنقد الذاتي ولمراجعة المواقف، في ذلك الفكر. إنما كانت النقاشات تدور حول أمور يعرفون أنها يمكن أن تحل، دون الالتفات إلى ناحية البحث في الوسـائل لحلّ الإشـكالات الحقيقية القائمة آنذاك. كانت أهداف الإصلاحيين متمركزة حول محوريين: بعث الدين القويم وإعادة سيطرة الإسلام. وقد ساعدت النزعة العقلانية لدى الإصلاحيين في تمهيد الطريق لشرح الحاجة إلى بعض الإصلاحات، وخاصة السياسية.
غير أن ذلك كلّه يبوء بالفشل اليوم لأن المتديّن يصرّ على هداية العالمين، والملحد يتمترس خلف عقلانيّة تصرّ على نسف الثوابت والبدء من جديد. فيتم نسف الحُجّة بالقنبلة ويُقابل الرأي بالرصاص، ويصرّ كلا الطرفين على تطويع الطرف الآخر لتصبح الحياة جنّة الله على الأرض، وهكذا يذيقنا القمع ألوان جهنم التي تكون مليئة عادة بذوي النيّات الحسنة والفعل القبيح.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”