القضية السورية، من الستاتيكو إلى الاستعصاء
يُلاحِظ المراقب كيف تحوَّلت القضية السورية من حال الجمود إلى الاستعصاء بسبب فشل أطراف الصراع في تحريك ذلك الجمود، إلى درجة أنهم حين قرروا اتخاذ خطوات يرون فيها سبيلاً للبدء في خطوات الحل، تحولت إلى ضربٍ من الفشل الذي تراكم فوق الفشل الذي يعاني الشعب السوري من تبعاته على مدى عقدٍ. وإذ تدخل القضية السورية في هذا الاستعصاء فإن ذلك يدل؛ إما على عدم القدرة على فعل شيء، أو على غياب الإرادة عند من يملك تلك القدرة وكانت نتائجه عكس ما كان مرجوّاً. أما آخر الخطوات التي كان المفترض بها المساهمة في الحل فتحولت إلى عراقيل، كان قرار الائتلاف السوري المعارض إنشاء المفوضية العليا للانتخابات، وقبلها مؤتمر عودة اللاجئين الذي دعت روسيا إلى عقده إضافة إلى أعمال اللجنة الدستورية. وبهذا يكون السوري قد دخل في طورٍ جديد من المأساة المتواصلة، مع تكرُّس هذا الاستعصاء.
كان قرار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي أصدره في 19 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وأعلن فيه إنشاء “المفوضية العليا للانتخابات” معلناً نيَّته خوض السباق الانتخابي مقابل الرئيس السوري، بشار الأسد، في الانتخابات الرئاسية سنة 2021، كان هذا القرار بمثابة دليلٍ آخر على ضياع البوصلة لدى الائتلاف الذي عقدَ قسمٌ كبيرٌ من المعارضين السوريين عليه الآمال في الوصول إلى حل لمأساتهم. غير أن الارتجال في اتخاذ القرارات، ومنها القرار المذكور، والفردية وعدم مشاركة آراء الآخرين في اتخاذه، يدل على ابتعاد هذا الائتلاف، وقياداتٍ كثيرة من المعارضة السورية، عن حواضنهم وقواعدهم الشعبية، وإهمالهم قضايا هذه القواعد وهمومها، هذا إذا ما افترضنا أنه قد تبقى لهم حواضن أو قواعد شعبية يعتد بحجمها، بعدما التفتت تلك القيادات إلى مشكلاتها ومناحراتها الداخلية، وأحياناً إلى إحصاء مكاسبها الشخصية، فجعلت جزءاً كبيراً من تلك القواعد تنفضُّ عنها.
ويطرح هذا الأمر المآل الذي آل إليه الائتلاف بعد مضيِّ هذه السنوات على تشكيله، وهو الذي كان من المفترض به تعزيز فكرة المواطنة لدى أبناء المجتمع السوري وتعزيز مفهوم الحرية والديمقراطية وقيم الكرامة واحترام القانون التي دفعت قسماً كبيراً من المعارضين إلى الخروج على النظام سنة 2011، غير أن تلك المفاهيم والقيم رماها الائتلاف خلفه وتفرَّغ لمشكلاته. كما كان المفترض به صياغة مشروع لسورية الغد المأمولة، المختلفة عن سورية الآن وسورية ما قبل الحرب. كما كان من المفترض به أن يصبح جامعاً لجميع القوى المعارضة، لصهرها في هيئةٍ أو كيانٍ حزبيٍّ واحدٍ يربط مسألة الوطنية بمسألة التحرر في مختلف أشكاله، للارتقاء بمفهوم المعارضة الحقة، وجمعَ السوريين في شتاتهم حوله. غير أن الارتجالية التي دفعته لتشكيل تلك المفوضية ثم تجلت في سرعة إلغائها، لم تكن سوى ثمرة الفردية التي حكمت عمله ونتيجة للخلافات الداخلية التي كانت تعصف به، ما جعل الكثيرين ينسلخون عنه، ولا يرجون منه ما كان مرتجى.
أما على المقلب الآخر، فقد تجلَّت إحدى أشكال الاستعصاء السوري في المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين السوريين الذي عقد في دمشق، أواسط الشهر الماضي، بدعوة من وزارة الدفاع الروسية، والذي رفضت دولٌ كثيرةُ حضوره بسبب عدم نضوج شروط عودتهم التي يحددها السير في عملية الحل السياسي وفق القرارات الدولية. كما يحددها البدء بعملية إعادة البناء التي لا يمكن الشروع فيها قبل البدء بمسيرة الحل والانتقال السياسي، من أجل ضمان مشاركة الدول الغربية ودول الخليج العربية فيها، بعد ثبوت عجز روسيا وإيران والصين الاضطلاع وحدهم بها. وينسحب هذا الأمر على جولة أعمال اللجنة الدستورية السورية التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي كان آخر ما ناقشته في جنيف، قبل أيام، هو موضوع المواطنة والهوية، بدلاً من مناقشة صياغة دستور جديد للبلاد تتوافق عليه المعارضة والنظام ومنظمات المجتمع المدني التي تخوض تلك المفاوضات.
يبقى أن الحل لا يمكن إنجازه بوجود المتدخلين في سورية وعلى أرضها، كما لا يمكن إنجازه بغيابهم؛ إذ إن لكل طرفٍ، سواء كان روسيا أو الولايات المتحدة الأميركية أو تركيا أو إيران، لكلٍّ منهم أتباعه الذين لا يمكن إنجاز الحل من دونهم. فرفض مشاركة أحدهم في الحل ربما يؤدي به إلى تحريك أتباعه، وتخريب أي خطوات تسير في هذا الاتجاه عبر إيلاج المناطق التي يسيطر عليها في اندفاعةِ صراعٍ جديدةٍ تكون في غنى عنها وتصيب بقية المناطق بشظاياها. وفي حين يساهم هذا الأمر في منع أي طرف ادعاء الغَلَبَة، تكمن الخطورة في استمرار الوضع على ما هو عليه من توازن مصالح المتدخلين، وتوصُّلهم في النهاية إلى تفاهمٍ حول طريقةٍ لإدامة هذا التوازن، وبالتالي استبعاد الحل وتجذير الاستعصاء.
وكالعادة دائماً، لهذا الاستعصاء السوري تبعات كارثية مرئية وأخرى مستترة يصعب لمسها، ولا تظهر نتائجها إلا بعد سنوات وربما عقود. وليس استمرار معاناة اللاجئين السوريين في مخيماتهم التي تتوزع على دول الجوار، سوى إحدى التبعات الدائمة والثابتة لذلك الجمود ومن بعده هذا الاستعصاء. كما وإن إلقاء نظرة على وضع الاقتصاد في مناطق سيطرة النظام، ومعاناة السكان بسبب تدهور قدرتهم الشرائية، بعد زيادة التضخم الناتج عن ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة، والذي يعزوه النظام إلى العقوبات الدولية، هو الآخر من تلك التبعات. وفي محاولة لإجراء تقاطع للمآسي المشتركة التي يعاني منها الموالون للنظام داخل مناطق سيطرته، والمعارضون له خارج تلك المناطق، أو في المخيمات وأماكن اللجوء، نستطيع القول إن السوريين عموماً قد تُركوا لوحدهم لملاقاة نتائج الحرب التي ضربت بلادهم، فيما القادة يُزْجُون الوقت الذي يمرُّ ثقيلاً على أتباعهم.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”