fbpx

الفطرة… طقوس دين أم مشروع إخاء إنساني

0 418

الفطرة هي الوصفة الإسلامية الجميلة لبناء مشترك إنساني عميق.

كم هو عسير وشاق أن تتحدث عن الإخاء الإنساني في هذا الزمن الرديء، وأنت تعيش دراما الحروب الضارية، ولكن حتى في غبار هذه الحرب المجنونة فإنني أدعوك إلى التأمل معي في عقيدة الإخاء الإنساني بين الأمم وفق ما نادى به الإسلام تحت عنوان الفطرة.

الفطرة، إنها جانب من التربية التي يتلقاها المسلم على مقاعد الدرس وهي ثقافة علمها الأنبياء لكل شعوبهم التي بعثوا فيها: فطرة الله التي فطر الناس عليها ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

والفطرة أكثر العقائد شعبية في العالم، وهي تدفع الإنسان تلقائياً للإيمان بالخير في أخيه الإنسان، يؤمن بها المسلم والمسيحي واليهودي وأتباع مصلحين آخرين أنبياء لم يقصصهم الله في القرآن، كما يؤمن بها كل من يؤمن بالإنسان مصدراً للخير والسلام والمحبة.

ومع ورود تأويلات كثيرة للفطرة في الفقه الإسلامي وهي ترتبط بالبساطة والعفوية والباطن الظاهر الذي لم تكدره تعقيدات الحياة، ولكنني أقرأ في توجيه الأنبياء بالفطرة جانباً من الخطاب السياسي الواعي بالمشترك الإنساني والدعوة إلى البناء عليه وإطلاق ثقافة إخاء وتكامل بين الشعوب الإسلامية على اختلاف مشاربها.

الفطرة إنها المشترك الإنساني الذي خلق الله الناس عليه، وفي عقيدة المسلم أن الله تعالى كرم الإنسان وأنزله منزلة سيد الوجود ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته قبل أن يكون هناك أديان أو أوطان أو أنبياء وقبل أن تكون في الأرض مساجد أو كنائس أو معابد، وبذلك قام الإنسان في الأرض روحاً من روح الله، ونفحة من نفحاته، وسراً من أسراره، وانطلق يحكم هذا الكوكب بما سخر الله له من نعمة العقل والحكمة.

وإيماني أن الهدف من تدريس هذه العقيدة لكل مسلم هو بناء ثقافة ثقة بين الإنسان المسلم وبين العالم، فالفطرة إذن قدر مشترك بين الشعوب والأمم، ومن حقنا أن نبحث عنها في كل أمة وفي كل شعب وفي كل حضارة، وأن نقارب ونحلل لنصل إلى المشترك الإنساني بين البشر.

قام الاستبداد تاريخياً بتلقين أجيال كاملة أن العالم يتآمر علينا وأن علينا أن نبقي الأصبع على الزناد مهما بدا من إيجابياتهم وبرامجهم فهم مفطورون على الشر يكيدون بنا وبشعوبنا وعلينا أن نبقى متيقظين في مواجهة الأعداء.

لقد مارس الاستبداد هذا اللون من التفكير خلال تاريخ طويل من القمع وأقنع الناس أن العالم عدو يتآمر علينا، وبإمكاننا أن نتذكر معاً ثقافة واحدة متكررة تلقيناها على مقاعد البعث السوري ولا تزال إلى اليوم تلقن للأطفال وفق الأسطوانة المشروخة إياها: إسرائيل هي العدو التاريخي لنا وأمريكا الداعمة لها عدو وكندا وأستراليا وغيرها من دول الغرب، تدور في فلك أمريكا فهي عدو لنا وأوروبا تتآمر على نظامنا الرشيد فيجب شطبها من الخارطة!! والدول العربية كلها تتآمر على نظامنا المقاوم فهي عدو!! وشعبنا الثائر ضد نظامنا الممانع شعب متآمر وعدو!! ويستمر التخوين من أقصى الوطن إلى أقصاه بحجم هذا الدمار الذي مارسه النظام من عين ديوار إلى القنيطرة.

وفي إطار الخطاب الديني لا يبالي كثير من مشايخنا أن يقسموا العالم الى هذه الثنائية الصارمة مسلمون مفطورون على الخير وكافرون مفطورون على الشر، وهؤلاء في الجنة وهؤلاء في السعير، فهل خلق الله المسلمين وعهد للشيطان أن يقوم بخلق الكافرين؟ ويستمر الغلو في تحقير الآخر والتشكيك بفطرته إلى حد القول بأن أهل الجنة هم واحد من كل ألف وأن 999 من كل ألف أشرار مصيرهم إلى النار وللأسف فهذا مما نسب إلى الإمام البخاري ومسلم (انظر صحيح البخاري قصة ياجوج ومأجوج) وهو يتضمن إساءة بالغة إلى حكمة الله في الخلق، وقدراً مخيفاً من فشل المشروع الإلهي في الاستخلاف على الأرض!!.

إنها أسئلة تبدو بلهاء، ولكنها في الواقع في ضمير هذا السوري التائه في أيام الأزمات القاسية التي نواجهها، وهذه الثنائية تسهم دوماً في حجب الحقيقة وبالتالي سوء الظن والريبة بالعالم من حولنا، وبالتالي عجز المسلم عن مواكبة الحياة والمشاركة في المنجز الحضاري.

ولكن أين الإنسان في هذا الركام، وأين هي الفطرة التي بشّر بها الأنبياء؟.

هل هناك أكثر من خالق يهب الفطرة للناس، وهل هناك أكثر من روح إلهية مسحت جبين الخلائق، وهل هناك إله وطني فاضل خاص خلق المقاومين والممانعين، وإله متآمر شرير قام بخلق باقي سكان هذا الكوكب؟.

وفي الفقه التقليدي فإن ربط الفطرة بالمشترك الإنساني لم تطرح أساساً، ولا ينقضي عجبي في التأويل الشهير في كتب التفاسير حيث تم اختزال الفطرة من القيم الإنسانية العليا المشتركة إلى المضمضة والاستنثار ونتف الإبط وتقليم الأظافر والختان وغيرها من السلوكيات الطقسية الهامشية التي يشترك فيها الناس، وهي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه (انظر تفسير سورة البقرة آية 37 لكل المفسرين بالمأثور) ولكنهم لم يذهبوا أبداً إلى تحليل البعد الحقيقي للاشتراك الإنساني في هذه الطقسيات وتحويلها إلى مدخل لفهم الاشتراك الإنساني في إرادة الخير والتعاون بين الناس شعوباً وقبائل، ودولاً وأحزاب، لوقف الظلم والقهر والاستعباد والاستبداد.

قناعتي أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي قدر مشترك من الفضائل والخير أودعه الله في قلوب الخلائق وعلينا البحث عن مكامن الفطرة الغائرة في نفوس الناس، والبناء عليها لإنشاء عالم فاضل يتعاون أبناؤه على فعل الخير الذي زرعه الله في قلوب الناس ليعمروا هذا الكوكب بخطاب المحبة والنور والسلام.

قد تتعرض الفطرة للتشويه والخلل ولكن ذلك يكون في إطار ضيق من السلوك الطائش وبعض الأطماع الفاجرة، وفي الدول المتحضرة يذهب هؤلاء إلى السجون ليتم تأهيلهم وإعادتهم إلى الفطرة السليمة، ولا يجوز أن يكون هذا الانحراف أصلاً تبنى عليه قراءة الإنسان، وإلا كنا إذن في أزمة فشل المشروع الإلهي في استخلاف الإنسان والعهدة له فطرياً ببناء الإخاء والمحبة والحضارة.

إن إيماني بأن الله هو وحده الخالق وأن الخلق جميعاً عياله وأنهم يتصرفون بالفطرة التي فطرهم عليها يحتم عليّ البحث عن المشترك الإنساني والثقة بالإنسان والإيمان بقدرته على بناء أسرة إنسانية واحدة.

لأجل هذا أثق بالديمقراطيات ولا أثق بالاستبداد، لأن الديمقراطيات آلية تنتج ما أودع الله في نفوس عباده من الفطرة، وتجعلني دوماً أطمئن إلى اختيارات المجالس الديمقراطية الحقيقية في العالم، عربية أو أوروبية أو أمريكية، لأنها ستتجاوز بكل تأكيد الفطرة المشوهة التي قد يكون بعض الناس انحرفوا إليها بأطماع طارئة ولأنني أعتقد بأن من المستحيل أن يفشل المشروع الإلهي في بناء الفطرة السليمة في هذا العالم.

قد يبدو غريباً هذا الربط بين الاعتقادي والسياسي، ولعل كثيراً من الأصدقاء لا يوافقون على هذا الترابط، ولكنني أعتقد بيقين ان الإيمان بالفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ستكون محض ثقافة بلهاء إذا لم تثمر في الأرض الثقة والتعاون والخير والمحبة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني