الفساد واستراتيجيات المواجهة
بقدر ما يتوسَّع شعاع الفساد ويسود في المجتمعات ويتجذَّر، بقدر ما تزداد على عاتق الفئات المتضررة منه مهمات مواجهته وضرورة التحشيد لتفعيل هذه المواجهة، علاوة على ابتداع أساليب جديدة لذلك. وإن كانت حملات مكافحة الفساد الشعبية على الأرض وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأيام، ما تزال خجولة، وحملات الحكومات والأنظمة الحاكمة لمكافحته في كثير من الأحيان غير جدية، وفي أحيان أخرى يكون هدفها طمس آثاره، بسبب تمأسُس هذه الآفة، أصبح لزاماً تنصيب من يكشفونه ويعملون على محاربته أبطالاً، بسبب المخاطر التي يتعرضون لها خلال عملهم. ونتيجةَ هذا الواقع وثقل الفساد وضغطه، تأسست في فيينا أكاديميةٌ دوليةٌ لتشخيص عوارضه لمكافحته، وتبرز الحاجة لظهور مؤسسات شبيهة ووسائل إعلامية متخصصة بفضح أسرار أصحابه.
لم يعد الفساد مجرَّد تلك الممارسة الشاذة التي تجري في المؤسسات والشركات التجارية وفي المفاصل الحكومية، والتي توقِع الخسائر المادية في هذه المرافق وتعطل حسن سيرها، علاوة على أثرها الإفقاري الذي يطال عامة الشعب؛ بل أصبح مؤسسات متجذرة في المجتمعات، تقوم مقام الحكومات في بعض الأحيان، وتهرق الدماء وتودع الشرفاء السجون، مبقية المرتكبين طلقاء يتنعمون بمكاسب جناياتهم. في هذه الحالات، غالباً ما يكون جهاز القضاء ذراع هؤلاء، يحركون أدواته من قانون وأجهزة شرطة للإيقاع بخصومهم، وبمن يشير بإصبعه إلى ممارساتهم ويفضحها. من هنا دخلت الرهبة إلى قلوب الجميع، وبرز العجز عن مواجهة الفاسدين فاستأسدوا، وبات من يقارعهم يستحق إعلانه بطلاً، إن خرج من معركة مكافحة فسادهم حياً.
تكثر الوقائع التي تدل على تجذُّر الفساد في مجتمعاتنا العربية، وغيرها من المجتمعات، حتى بات من الصعب الإحاطة بتفاصيل أشكاله والمفتضح منها، فما بالك بما خَفيَ. فمنذ أشهر، انفجر مرفأ بيروت، في 4 أغسطس/أب، وتسبَّب في وفاة مئات الأشخاص وجرح الآلاف، علاوة على تدمير نصف المدينة وتشريد السكان. ومن التحقيقات الأولية تبين أن الفساد هو المسبب له، كونه كان وراء منع ترحيل كميات الأمونيوم التي تسببت بالحريق، ثم الانفجار، حسب فرضية الحكومة اللبنانية حول الموضوع. ولم تُقدَّم للقضاء لوائح بأسماء المتهمين بذلك الإهمال، ما يشي بأن أحداً لن يُحاسب على التسبب بتلك الجريمة.
وقبلها، حصلت أكبر عملية فساد في تاريخ لبنان، حين سَطَت البنوك اللبنانية على أموال المودعين لديها، حتى بات اللبنانيون عاجزين عن سحبها. وقيل إن السياسيين وزعماء الطوائف قد حولوها إلى حساباتهم في الخارج، خوفاً من أن تجرفهم ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، التي اندلعت وطالبت بإسقاطهم وإسقاط النظام الذي يمثلهم ويحميهم. وإذ تزامنت عملية السطو على الودائع مع انفجار المرفأ، تزايدت معاناة أبناء الشعب اللبناني، وانبرت كثير من دول العالم إلى تقديم المساعدات له، لكنها أحجمت خوفاً من أن تقع تلك المساعدات في أيدي أقطاب السلطة اللبنانية فتضيع. ومن الأمور المثيرة للسخرية والألم في الوقت عينه، أنه في أعقاب الانفجار، زار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون بيروت، والتقى المواطنين قبل الرسميين، وصرَّح أمامهم تصريحاً وجَّهَه للشعب اللبناني، مطمئناً إياه بأن المساعدات الفرنسية لن تمر عبر أجهزة السلطة كيلا يتقاسمها المسؤولون. لكن الرئيس اللبناني، ميشيل عون، أبى إلّا أن يثبت صحة فرضية الرئيس الفرنسي، حين أعلن في 24 أغسطس/آب الماضي، أي بعد أيام من الانفجار، عن توزيع هبة الشاي السيلاني المقدمة من سيريلانكا للمتضررين من الانفجار، والمقدرة بـ 1675 كيلو غراماً، على أفراد حرسه الشخصي، ما أحدث صدمةً لدى الصحافة السيريلانكية وسمته إحدى الصحف بـ “حرامي الشاي”.
وقبلها، في سورية، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي أخباراً عن توقيف وزير سوري سابق على خلفية المخالفة في عقود بلغت قيمتها 350 مليار ليرة سورية، في حين أن أعلى دخل شهري يتقاضاه موظف حكومي لا يتعدى 50 ألف ليرة، أي أقل من مئة دولار، حسب سعر الصرف في تلك الفترة، وهو ربما الأجر الأقل في العالم. وهنا تعجَّب السوريون كيف توفرت هذه الأموال وكيف نُهب منها ما نُهب بتلك المرونة، وهم الذين لا يسمح لهم دخلهم الضحل بالحلم بتوفير الطعام لأبنائهم حتى نهاية كل شهر.
أما في العراق فيدفع الفساد دائماً، مئات الآلاف من المواطنين للخروج في مظاهرات غاضبة ضد سياسات الحكومة وأقطابها الذين ينهبون مقدَّرات البلاد من دون حسيبٍ أو رقيبٍ. وهو واقع استدعى كلام مصدر عراقي مسؤول، في سبتمبر/أيلول الماضي، عن فضائح تتعلق بموافقات قدمتها الحكومات العراقية المتعاقبة، والتي أتت بعد الغزو الأميركي، سنة 2003، تقضي بتمويل أكثر من ستة آلاف مشروع 30% منها برعاية أميركية، تبين أن جميعها مشروعات وهمية، وُضع حجر الأساس لها لكن أياً منها لم يرَ النور، وذهبت الأموال التي خُصصت لها، والمقدرة بـ 178 مليار دولار أميركي، أدراج الرياح، من دون أن يستطيع القضاء العراقي تسجيل قضيةٍ تستدعي التحقيق في واحد من هذه المشاريع الوهمية.
من هنا بات الأمر يتطلب البحث عن استراتيجيات لمواجهة الفساد الذي لم يعد الأسلوب الخجول المتبع في مكافحته يُجدي نفعاً، هذا إن قيض في بعض البلدان العربية الخوض في هذا الأمر من دون مخاطر، لأن الفساد أصبح ناظماً لعمل حكوماتٍ عربيةٍ كثيرةٍ. وليس ما يتسرَّب، هذه الأيام، عن الفساد الذي تدير أجهزة الحكم في مصر البلاد فيه، سوى الدليل على ذلك، هذا من دون الخوض في أسلوب التحاصص الطائفي والحزبي الذي يحكم العمل الحكومي في لبنان والعراق. لذلك، لم يعد كافياً وجود أحزاب معارضة تُدرج بند مكافحة الفساد على أجندة عملها من بين البنود الأخرى، بل أصبح الأمر يتطلب وجود أحزاب تكون مهمة مكافحة الفساد بنداً وحيداً على أجندتها، لأنه لم يعد واحداً من عللٍ كثيرةٍ يعاني منها المجتمع، بل أصبح العلة الأساسية التي تسقم هذا المجتمع وتدفعه للموت.
ربما، وبفعل هذا الواقع، أصبح لزاماً تنصيب الساعين لمكافحة الفساد أبطالاً، لأن المتنطعين لهذه المهمة غالباً ما يتعرضون لمخاطر كثيرة في الدول الراقية، فما بالك في دول عالمنا الثالث. وتأتي الدعوة السنوية التي خرجت بها “جائزة تميم للتميز في مكافحة الفساد” للأفراد والمؤسسات لتسليط الضوء على أبطال برزوا في مكافحة الفساد حول العالم عبر إجراءات اتخذوها وأثمرت إنجازاتٍ في هذا المضمار، أو عبر البحث الأكاديمي وابتكار طرائق لفضح ممارسات الفاسدين وكشفهم، وتسهيل طرق أجهزة القضاء للوصول إليهم. وتهدف الدعوة لتكريم هؤلاء، سواء كانوا أفراداً أم مؤسسات، من أجل تحفيزهم وتحفيز المؤسسات والحكومات والجامعات ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني للسير في هذا المسار وتبني مبادئ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وحري بهذه الجائزة أن تصبح صَنو جائزة نوبل للسلام، لأن المناضلين لمكافحة الفساد أصبحوا في مرتبة المناضلين لإحلال السلام بفضل إنجازاتهم وأهميتها.
قطع العالم شوطاً واسعاً في التنظير لأساليب مكافحة الفساد وأهمية هذا الأمر وفي الممارسة العملية لوقف انتشار هذا الداء وتجذُّره. فإضافة إلى تخصيص الأمم المتحدة يوم 9 ديسمبر/كانون الأول “يوماً دولياً لمكافحة الفساد”، وإضافة إلى “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد”، هنالك “الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد” التي وقَّعت على إنشائها عشرات الدول والمنظمات الدولية. كما توجد “المنظمة العالمية للبرلمانيين ضد الفساد” التي تأسست سنة 2002، وغيرها كثير من المنظمات التي تعنى بالنزاهة. وبينما تخوض دول كثيرة في مكافحة الفساد، وتوفر مساحة حرية واسعة للإعلام لينشط في هذا الميدان، تستمر كثير من الدول العربية في تحريم الخوض فيه. ولن تستطيع هذه الدول الخلاص من هذه العلة، إلا إذا تجرأ أفرادها ومؤسسات المجتمع المدني فيها، على الخوض الجدي في هذا المُحرَّم لتحريك مستنقع وُحُولِه الراكد.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”