fbpx

الفساد المُروع للجوائز الأدبية

0 193

سأروي تلك الحادثة المُوثقة، التي كانت في وقتها فضيحة أدبية مُخزية، ومن حسن حظي أنني كنت شاهدة عليها ومُساهمة أيضاً في كشفها. كانت جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع في الأردن، قد أعلنت عن جائزة دسمة للرواية شرط أن تكون الرواية غير مطبوعة، وطبعاً غير منشورة، والشرط الأهم ألا تكون قد حصلت على جائزة. لست متأكدة تماماً أي عام أظن كان عام 1995، كانت الجائزة تعادل حوالي مليوني ليرة سورية (وكان سعر الدولار 45 ليرة سورية)، وعرفت بالجائزة عن طريق صديقة غالية من الأردن لأن اتحاد الكتاب العرب (عادة) كان يتعمد ألا يُخبر فروعه في كل المحافظات بتلك الجوائز. يومها تقدمت للجائزة بروايتي (أبواب مُواربة) واتصلت بسكرتير الجائزة لأتأكد من وصول روايتي (كنا نرسلها بالبريد لم يكن هناك بعد إنترنيت). وتقدم الكثير من المبدعين لجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع الروائي، ولا أخفي حلمي أن تفوز روايتي بالجائزة. صدرت النتيجة أخيراً بحصول كاتب فلسطيني سوري يعمل في اتحاد الكتاب العرب في دمشق محرراً لجريدة ثقافية وأحب أن أعطي لمحة عنه.

كان الكاتب والموظف المدلل جداً لرئيس اتحاد الكتاب العرب علي عقلة عرسان الذي بقي رئيساً للاتحاد ربع قرن، وكان للكاتب المدلل حصة الأسد في كل الدعوات لمؤتمرات أدبية (وغير أدبية) حتى أن لقبه صار (حامل الحقيبة) سافر مراراً إلى إيران وتونس وغيرهما، وطبعاً في كل سفر يحصل على مكافأة مالية ضخمة. الكاتب إياه فاز بجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع، وصدر تقرير اللجنة التي أعطته الجائزة أن أسلوبه يتميز بالواقعية السحرية كما غابرييل ماركيز!!! كانت عبارة الواقعية السحرية آخر موضة وقتها، تُستعمل كيفما اتفق كأنها علامة الثقافة والحداثة، ولأن لا شيء يخفى فقد تفجرت الفضيحة بجلاجل (كما يُقال) إذ تبين أن الرواية التي تقدم بها الكاتب إياه قد سبق وقدمها هي ذاتها لجائزة سعاد الصباح وحاز وقتها على الجائزة (التي كانت تشترط ألا يكون عمر الكاتب أكثر من 32 عاماً) أي أن روايته الفائزة بجائزة سعاد الصباح المنشورة، تقدم بها لجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع في الأردن، بعدما غير عنوانها، ودس بعض الفقرات في النص الأصلي، وكنت واحدة من الذين قرؤوا روايته. طبعاً صُعقنا عندما علمنا بالخبر!!! ترى ألا يتم التدقيق في الأعمال والروايات المُقدمة للجوائز؟ ألا يفترض بالمسؤولين عن جائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع التأكد من مصداقية الكاتب، وأي تقرير مهزلة أن الرواية تتمتع بالواقعية السحرية، وحضرته لا يكتب إلا عن فلسطين التي يريد أن يمتطي الشهرة كونه فلسطينياً، وطبعاً اتصل العديد من الكتاب المشاركين في الجائزة بلجنة التحكيم، وأبلغوهم أن الرواية الفائزة للكاتب الفلاني قد سبق أن نالت جائزة سعاد الصباح منذ سنوات وأنها مطبوعة، فارتبكت اللجنة ولتزمت الصمت!!! إلا أن أحد أعضائها اضطر أن يبرر تلك الفضيحة بأنهم يعتمدون على مصداقية الكاتب، ولا يخطر ببالهم أن أنبل الناس (أي الكتاب) يغشون، وطارت الجائزة من الكاتب، طار مبلغ مليوني ليرة سورية. طبعاً جن جنونه وصار يقول بأن (كلون يعني كلون) أي الكتاب المشاركين في الجائزة يشعرون بالغيرة منه، وأن روايته مختلفة تماماً عن الرواية التي ربحت في مسابقة جائزة سعاد الصباح.

هذه الفضيحة الموثقة تبين مدى الفساد وإحتقار الثقافة، وأن هذا المبدع الزائف، لا يستحق أن يكون كاتبا، ثم أيه لجان تحكيم هذه!!! علاقات شخصية وولاءات واستزلام، ومصالح، فقد تبين أن الكاتب إياه صديق حميم لاثنين من لجنة التحكيم، أرادا أن يساعداه مادياً بتلك الجائزة الدسمة متغاضين عن هذا التزوير، وأيضاً واثقين أن الخيانة لن تُكشف، لكنها كُشفت.

للأسف هذه الحادثة المُوثقة، حين كشفت أحدثت ضجة وفضيحة تتكرر في جوائز كثيرة اليوم، لست الوحيدة التي أكاد أصاب بالسكته القلبية حين أسمع من جديد أن كاتباً متوسط الموهبة يزعم أنه ناقد، دائما ما يجمع مقالاته في المديح، ويصدرها في كتب، لكنه لا أكثر من مقاول، موهبته العظيمة ليست في الكتابة، إنما في بناء شبكة من العلاقات الخاصة، وإظهار المودة والولاء التام لمن يعملون في مطبخ الجوائز، وهو مطبخ بالمعنى الحرفي للكلمة. هذا الكاتب فاز بجائزة خيبت الأدباء حين وضعته على قدم المساواة مع كتاب كبار كسعد الله ونوس وفيصل دراج، لهم اسهامات حقيقية في عالم المسرح والنقد!!! هل يتساوى الانتهازي مع كتاب أصحاب ضمير؟

كم من المرات تناقشنا مطولاً أنا وأصدقاء (من المثقفين الشرفاء المبدعين) عن مهزلة هذه الجوائز ونستغرب كيف تُعطى جائزة لرواية أقل من عادية، بينما تُحجب عن روايات عظيمة قصداً، كما لو أن الغاية تمجيد الرداءة وتكريس متوسطي الموهبة، الغاية ألا يكون هناك لمعة إبداعية حقيقية في هذه الجوائز، أذكر مثلاً كم تفاجأت مع العديد من الأصدقاء، كيف أن رواية رائعة (شارع العطايف) لعبد الله بن بخيت لم تحظ على نصيبها في جوائز البوكر، وكيف أن الكثير من الكتاب السوريين كخيري الذهبي وممدوح عزام وفواز حداد الذين يمثلون الرواية السورية، لا تتم الحفاوة بأعمالهم كما تستحق فعلا. يحق لنا أن نتساءل كيف يمكن لمجلة مشهورة ثقافية مثل مجلة دبي الثقافية التي كانت تطبع كتاباً مع كل عدد شهري، أن تطبع ثلاث روايات لهذا الكاتب!!! وتظلم بقية الكتاب المبدعين من دورهم وحقهم في صدور كتاب لهم. وأحب أن أذكر ما حصل معي إذ كنت أكتب مقالات عديدة في دبي الثقافية حين كان يرأسها المبدع الصديق ناصر عراق (صاحب رواية رائعة من فرط الغرام) كان يحب كتاباتي خاصة أنني كنت أختار كتباً هامة وأكتب عنها مثل كتاب (عقل غير هادىء) وكتاب نقدي لجبرا إبراهيم جبرا… الخ. وطلب مني ناصر عراق أن أرسل له عملاً غير مطبوع ليطبعوه كتاباً في مجلة دبي الثقافية وفعلاً كنت قد انتهيت من كتابة مجموعة قصصية هي (sms) وأرسلتها لدبي الثقافية، ونالت الإعجاب الكبير خاصة أنهم لم يكونوا قد طبعوا قصصاً قصيرة بعد، وتحدد موعد صدور مجموعتي القصصية في شهر أيار عام 2009، ولا نعرف السبب الذي إستبدل فيه ناصر عراق برئيس تحرير سوري آخر، واتصلت أبارك للرئيس الجديد وأكد لي أن مجموعتي القصصية ستصدر في حينها كما وعدوني، واقترب شهر إيار ولم يتم الاتصال بي رئيس تحرير مجلة دبي الثقافية، وصدر عدد شهر أيار ولم تكن مجموعتي القصصية مطبوعة بل رواية للكاتب الذي طبعوا له ثلاث روايات (لو كان غابرييل ماركيز أو كاواباتا لما طبعوا لأي منهما ثلاث روايات) وطبعاً غضبت وأحسست بالمهانة، فأتصلت بالسيد رئيس التحرير السوري الجديد ولم يرد إطلاقاً على إتصالاتي، ولا على رسائلي على الإيميل، إلى أن كنت ذات يوم في بيروت وإتصلت به من جهاز هاتف في الطريق. فأتاني صوته فوراً وسألته لماذا لا يرد على اتصالاتي وإيميلاتي فتحجج بحجج مهزلة، وسألته لماذا لم تطبع مجموعتي القصصية مع أنك أكدت لي أنك ستطبعها فقال بأنهم (لا أدري من هم!!) وجدوها قصص جريئة جداً لا تتناسب مع سياسة المجلة!!! فقلت له بأن رأيهم كان على العكس حين تقدمت بالقصص، وبأنني لا زلت أحتفظ بالرسالة على موبايلي تؤكد فيها أنت شخصياً أن قصصي ستطبع في أوانها وستصدر في شهر إيار. طبعت المجموعة فيما بعد في دار الساقي (هي دار النشر العريقة التي أنشر فيها). ولاقت نجاحاً كبيراً.

للأسف لا توجد أيه محاسبة لهذا الفساد الثقافي الذي يجعل الناس ينفرون من القراءة والجوائز، لا أحد من المسؤولين الثقافيين أصحاب مطبخ الجوائز يتذكر ويؤمن بعبارة ألبير كامو (الكتابة شرف). الرحمة لروح العظيم رياض نجيب الريس الذي اكتشف الفساد في لجان التحكيم وإنسحب وقتها من اللجنة التي كان عضواً فيها. الغاية هي ترويج الوسط وحجب الإبداع العالي. كم حُوربت رواية محمد شكري الخبز الحافي وإتهمت بأحقر الصفات وامتنعت دور نشر عربية عن نشرها حتى نشرتها دار نشر أجنبية!! هذا لأن محمد شكري إمتلك شجاعة قول حقيقة عيشنا في مجتمع عربي مُنافق يعشش الفساد في كل مؤسساته خاصة الثقافية. محمد شكري الذي تحدث عن القاع، قاع الفقر والانحراف واللاأخلاق. ونحن نعيش تحت شعار (إذا ارتكبتم المعاصي فاستتروا). أذكر كم من أدباء في سوريا وغير سوريا كُرموا وتم التهليل لهم وحصلوا على جوائز وهم لا يستحقون.

الفساد الثقافي يحتاج إلى محاسبة من الهيئات الثقافية، هذا إذا كانت حريصة على الثقافة، حرصا على شرف الكلمة، وشرف الكتابة. كما قال العظيم ألبير كامو.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني