الغضب العارم
لن أتناول في هذه الإضاءة الإقليمي الوظيفي المتعدد، أو الدولي إلا بقدر يسير يقتضيه السياق، ولا يمكن تجاوزه بإشارة أو عبارة، مع إدراكي الكبير لأهمية الصراحة والوضوح في توصيف الإقليمي المتعدد بعد انكشافهم الذريع، وبيان أدوارهم الوظيفية المريعة في علاقتهم مع الشعب السوري، وثورته العظيمة التي أقامتهم ثم لم تقعدهم، وزلزلتهم حتى لم يتركوا جرماً بشعاً وكذباً ونفاقاً ولؤماً إلا تفننوا في استعماله ضد الإرادة السورية.
وسوف أركز على الجغرافيا السورية كاملة وفق وضعها الآني، وتوزع السوريين فيها بناءً على التوافقات أو المسارات أو التفاعلات أو فرض الأمر الواقع أو الخطط التي قضت ومنهجت بعثرتهم.
فهل يستسلم السوريون ويحاط بهم، أو ينفجر غضبهم، وتبقى مظاهراتهم وهتافاتهم تقطع أحشاء من يتربص بهم؟
تكثر نسبة الأحرار الكرماء في منطقة سيطرة الفصائل مقارنة بسائر المناطق لاعتبارات الهجرة أو التهجير القسري، ومن حيث الأصل فإن الأحرار موجودون بكل البقاع السورية، عكس ذلك هتافهم لبعضهم في الثورة: نحن معك للموت “حنّا معاكِ للموت”، فبالرغم ما كانت تواجهه منطقة ما من الضغط أو التضييق أو التوحش، فإنها لم تنسَ أختها وما تكابده، ودعمتها بهذا الهتاف المليء بمعاني السمو.
وأعتقد أن ذلك لن يغيب عن السوريين مع كل ما يواجهونه من تكالب منظم وعنصرية ممنهجة، كتلك الركلة الدنيئة التي مست وجهاً مسناً بريئاً، أو التصريحات العونية وأخواتها الأوروبية، والتهديد بالترحيل من بقاع متعددة.
وإذا استرجعنا ما حدث في السويداء، وأوضاع الناس في دمشق، وأحاديثهم عن معاناتهم، وما جرى في إعزاز والباب ضد ما يسمى بالشرطة العسكرية، وما يجري في درعا ومحيطها، ومظاهرات عفرين ضد المجلس المحلي وشركة الكهرباء يؤكد حدة الغضب وارتداداته الكبيرة والمتوقعة، ويثبت رغم حالة التقاسم بإيقاع الدولي أن نبض السوريين عالٍ ومتكامل فيما بينه بخيوط رفيعة للغاية، لكنها متينة.
ومن المرجح لدي سياسياً أن تكون منطقة الفصائل هي الأكثر غضباً والأعلى أثراً وتنظيماً باعتبار الدروس الهائلة التي استفادتها، وربما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
فكيف يمكن أن نقرأ هذا الغضب؟ أو نتفاعل معه، أو نسهم في تنظيمه بعد أن نفهمه؟
جميع الهياكل بكل تفرعاتها السياسية أو سواها لا تسهم إيجاباً في الارتقاء بالعمل الشعبي وملامسة قضاياه وهمومه، فكم تشبه التصريحات والبيانات الرسمية الصادرة من هؤلاء تصريحات العصابة الحاكمة وأساليبها وطرقها، حينما دعم هؤلاء ببياناتهم المهترئة التحركات المطلبية، وإقرارهم بمشروعيتها، ووقوفهم إلى جانبها، لكن عليها – حسب وصفهم – أن تحافظ على “المؤسسات” باعتبارها ملكاً للشعب، وبنيت بدمائه، وقد فات بياناتهم العظيمة أن تخرج في وقت سابق لتخاطب تلك المؤسسات، وتطالبها ألا تمتص دماء الشعب، وتزيد قهرهم، ولم تتوعدها بأن أمامها فرصة زمنية محددة لتراجع حساباتها، أو سيتم استبدال كادرها.
ونسيت هذه البيانات أو تناست أنها ومن تطالب بالحفاظ عليه صناعة خارجية غير محلية، ومفروضة على الشعب بالقوة، وغاب عنها أنها لو كانت تحترم وتقدر من تخاطب، لما قبلت أصلاً بصفة خارج الإرادة الشعبية التي تحترمها على الورق، وفي البيانات!
وعلى جميع الفئات الشعبية ألا تعير هذه البيانات علاوة على أصحابها المأجورين أي اهتمام، وإذا أحبت أن تضيع بعض وقتها، أو تهدر جزءاً من جهدها، وجلست مع أولاء أن تسألهم: من منحكم هذه الصفات التي أنتم عليها الآن؟!.
لا عبرة للتاريخ القريب كون هؤلاء أبناء ثورة واحدة، لأن العبرة بالخواتيم، فمن وجد فرصة عمل، ورضي بها أجيراً عند الغرباء، ولما تستكمل الثورة ما أرادت، لا علاقة له بالثورة إلا ذكريات الأيام الخوالي.
تماماً كالحركة الوطنية التي ركبت بقطار المحتل الأوروبي، وعمدت إلى أساليبه الفظيعة بعد مقارعته بسنوات، وكالمعارضة الوطنية التي تصدت للاستبداد، ثم فعلت ما فعلته بالثورة خدمة لأجنداتها الحزبية الضيقة.
إن فهمنا لحلقة الأدوات المحلية يساعدنا على الوصول إلى أهدافنا، والتركيز على المشغلين، وإحباط مخططاتهم، ومنعهم من الراحة أو الاختباء، ونزع ملابس الوقار عنهم، وإظهارهم على حقيقتهم؛ ويخرجنا من الثرثرات المحبطة للآمال التي يتقن صانع الأدوات إدخالنا فيها.
وهذا لا يعني الاستهانة بالأدوات، وما يمكن أن تقوم به، إنما ألا ننجر إلى معارك جانبية، وإعطائها حجماً أكبر من حجمها الطبيعي.
بعد كل القرارات وورشات المنظمات والمسارات والدراسات البحثية ظهرت موجة غضب سورية ثورية جديدة مخيفة، فانطلقت مباشرة عناصر التشويه السوداء المظلمة والملثمة والمنظمة لتفعل فعلتها التي طُلبت منها؛ مدرسة بعضها من بعض تخلط الغث بالسمين، وتدس السم في الدسم، ثم يأتي دور الأبواق الخطابية النثرية والشعرية لتجعل الفريقين فريقاً واحداً، فتدفع فريق الحرية والتغيير والسيادة بلهجة الجبناء العقلاء: أن الزموا منازلكم حتى لا تشوهوا أنفسكم؛ وللذي يستغرب أمثال هذه الاستنباطات نقول: إن الذي فتح المطارات والموانئ البحرية والحدود البرية للأقنعة السوداء لن تعجزه مخابئ داخلية لجحافل المقنعين، والذي علم العصابات الحاكمة استعمال لغة المندسين والإرهابيين، يمكن أن يعلم لغة شبيهة أو مماثلة عند الطلب.
واللهجة العاقلة الجريئة تقول لشعبها: تابعوا مسيرتكم، وتحينوا الفرص، ولا ترضوا بالذل والخنوع، لأن منزلة أكثر قهراً وخضوعاً تنتظركم، وأفحموا الأدوات الرخيصة، واسلبوا منها لهجتها ليتعثر مشغلها كما تعثر طيلة عشر سنوات، فظهر كذابوه ودجالوه الذين كانوا من قبل يصدرون على أنهم أئمة وقديسون ومفكرون رصينون ووجهاء متماسكون، والذين أنفق عليهم الغالي والنفيس، وسهر عليهم الليالي مربياً ومدرباً، ثم ألقينا بهم جيفة على قارعة التاريخ، وهكذا أمثالهم سيكونون.
ولا تستطيع الأدوات أصلاً، أو التي التحقت بها بعد ادعائها الثورية أن تتساءل الآن، لماذا بعد كل الذي يجري في العالم ضد روسيا لم يتحرك ساكن ضدها في سورية؟!
لأن رياح الغضب السورية في هذه النقطة ما زالت ساكنة، أما إذا هبت فسرعان ما تتحرك عجلاتهم بأوامر مشغليهم: أن انتظروا، وتعقلوا، فالمعركة المصيرية قادمة، لكن ليست ضد معاقل العصابة وداعميها الذي أجرموا وتوحشوا ونكلوا بنا! بل هناك معركة أهم من مستقبلكم السياسي يقتضيه الحفاظ على الأمن القومي للدولة الفلانية أو العلانية، والدولة الفوقانية أو التحتانية!
إن إرهاب الدولة المنظم هو الأجدر بمواجهته واجتثاثه من قبل السوريين، وهو أصل الإرهاب ومنبعه، وكل ما يجري من معارك جانبية أيا كان الداعي إليها فإنها تسهم في الحفاظ على المجرمين، وتطيل عمره، وتستهلك دمائنا وطاقاتنا لتصرفنا عن وجهتنا.
وتنزعج الأدوات المحلية من الخط السياسي السيادي خوفاً من مشغليها، وحرصا على فرص عملهم الرخيصة في الشركات والمجالس والهيئات المعجونة بدماء الشهداء، والتي يسمونها زوراً وبهتاناً بمؤسسات الثورة، وهي بعيدة عن الثورة بعد المشرق عن المغرب.
وأكثر ما يهمنا في هذه المرحلة فضلاً عن سابقاتها عدم القعود والاستقالة، والإصرار على المتابعة، والإدارة والتنظيم على شكل مجموعات، لاكتساب أعلى درجة من التحصين الذاتي في مسيرة السيادة ضد الأدوات ومشغليها الإقليميين والدولي.
ولتعلم الأدوات مهما دبَّجت من بيانات، وقعرت من خطابات أن مشغلها سيرميها، وأن مصيرها التعلق بإطارات طائرات الذل والهزيمة كالتي أقلعت من أفغانستان وقُلِعت.