fbpx

العولمة والعنف والأنظمة من يُغذي الآخر؟

0 108

تنسب إحدى الحكايات، إلى تاجرٍ ظلت السلطات تتعقبه دوماً، فقيل إنه غير من طباعه، وبدأ يجتاز كل يوم الحدود برفقة بغاله المحملة بالأكياس أو التراب، وفي كل مرة يٌفتش لا يُعثر معه على أيّ شيءٍ غير نظامي أو ممنوع، وهكذا أستمر في اجتياز الحدود مع بغاله، وذات مرة أضطر للإجابة على أسئلة المحققين حول سبب حمله للأكياس الفارغة أو المحملة بالتراب، أجاب أنا أهرب البغال؛ لاستخدامها في مجالات عديدة، بالوقت الذي كانت السلطات تعتقد إنها تحكم البلاد، عبر إحكام السيطرة على الحدود، وتقوية نظام المراقبة والتفتيش للحقائب والأكياس.

تلك البغال التي دخلت أمام أعين الأجهزة الأمنية والرقابية دون أن تشعر بها، هي أشبه بحالة العولمة وما تنتجه من تقنيات مذهلة الفائدة والتطور، والتي تعتقد الحكومات والأنظمة المحاربة لفكرة التعددية السياسية والحريات والتداول السلمي للسلطة، تعتقد امتلاكها لقوة منع وصول تيارات العولمة السياسية والاقتصادية لبلدانها، وعوضاً عن الاستفادة منها في تطوير بلدانها وشعوبها، تستخدم منتجات العولمة الاقتصادية والعسكرية والسياسية في صراعها مع المجتمعات المحلية الطامحة نحو حرياتها وحيواتها؛ لمنع وصل بذور المعرفة والتطور لشعوبها، ثم تجد الأنظمة السياسية في العالم الشرقي بشكل خاص، أنها تحكم بلداناً مدمرة حضارياً، ومسحوقة نفسياً لعناصرها وسكانها، عوضاً من خلق رصانة سياسية وحريات تقوي حدود بلدانها. وكأن ثمة توافق غير مُعلن بين العولمة والاستبداد، ليتغذى كل على الآخر.

أصبحت مظاهر العنف المجتاحة لحواضن أغلب الدول، واضحة. فالحروب والنزاعات والتشنجات الداخلية كفيلة بخلق العنف والتعنيف، وتالياً الإنسان المعنف وما يخلقه في الأجيال التي تليه. تكمل فوقها، الجانب السلبي للعولمة الساعية نحو تسليع الإنسان وصنع والاغتراب ضمن الوطن…إلخ، وهي القضايا التي لا يُمكن تجاهلها ولا التعايش معها، فتخلق مجتمعاً مختلاً، لتكبر معها المخاوف من دخول أفواجٍ من كل الأجناس حلبة العنف، لتصل الأمم والشعوب إلى الخشية على نفسها من التفكك وضياع الهويّة.

فالعنف أصبح معيشاً ولو بدرجات متفاوتة بتأثيره وتداعياته على الوسط المجتمعي، لتجتاح مشاعر الحقد والحقد المضاد حواضن تلك المجتمعات لأسباب عديدة، رُبما جاز القول أن الشعوب وجدت نفسها ضمن العنف، سواء ضد أنظمتها، حكوماتها، إسرائيل، أمريكا، سوء الفهم لقضايا الأقليات والقوميات، ضد بعضهم بعضاً، لأجل معيشتها.. إلخ والمؤسف أن لا دراسات معمقة ورصينة حول جذر العنف في مجتمعاتنا، خاصة الأركيولوجية منها، هل هي حديثة بفعل مؤثرات العولمة والأوضاع المعيشية والقلق والخوف الذي يعتري المواطن في تلك المجتمعات، أم هي ذات منشأ قدّيم ووجدت في العولمة وظروف الحرب ضالتها، والإجابة على سؤال مهم: كيف اجتاح العنف حواضن مجتمعاتنا وانتشر بسرعة؟ فالإرهابيين/العنفيين يعتمدون على فرضية إنهم ناجحون حتى في فشلهم، وهذا أمر خطير جداً، التضحية بالجسد والفكر معاً بغض النظر عن النتائج المتوخاة، قوامه تهلكة مجتمعية خطيرة؛ فهي فرضية تقوم على منح العنفيين لأنفسهم بعداً نفسياً، سياسياً، دينياً وتاريخي، فرضيتهم أن عملهم الإرهابي وإن لم يأت بأي أهمية لكن عليه أن يوجد، وتالياً يشكل ذلك انقلاباً على مساعي وأمل القواعد الاجتماعية صوب الخير والسعادة والاستقرار، والأخطر أن كل تداعيات الممارسات العنفية لا تغدو سوى خيراً مطلقاً، حيث أن الحياة والموت بالنسبة لهم لا يحملان أيَّ تناقض، إنما وجهان لعملة واحدة.

للحرب أيضاً دورٌ في تأجيج مشاعر العنف والكراهية، فهي تأتي على الشخصية النفسية فتجعلها سيكوباتية /مضطربو الشخصية والعقل/ فهؤلاء يشعرون بالظلم والقهر، يكرهون من حولهم، وهذا كافي لتبرير إقدامهم على عنفهم كتعبير حقيقي ليأس المظلومين عن المجاراة والمقاومة، “فالعنف خير جليس للمظلومين” حتّى يصبح الإرهاب واقعاً موضوعياً وتالياً جذراً تاريخياً خاصاً بالمظلومين.

والأكثر غرابة أن أطروحة “اليأس كحامل فكري للإرهاب” هو نفسه إشارة لعجز وإدانة للإرهاب، فهو يفسر أن لا شفاء للعجز إلا في لحظة التدمير، فيتحول العنف إلى غطاء متواطئ للفعل الراجع “FEED BACK” لتصبح قوة معارضة للواقع والطبيعة تخلق شراً مطلقاً، وبل يسعى لخلق إمبراطوريات العنف الدائم، وسرعان ما تلجأ وسائل الإعلام الحكومية لتبني مصطلح الإرهابيين كوسيلة من السلطات والأنظمة لتضفي على الإرهاب معنىً سياسياً وعدم نهاية الحرب، وتبرئة نفسها من تداعيات الحرب.

وتالياً، كيف يمكن البحث في أنواع العمل العنفي/عنف المنزل، المدرسة، المناهج المدرسية، العمل، وأخطرها العنف المصاحب لإزهاق الأرواح البريئة، ربط الدين والشهادة مع الانتقام واستراتيجية البقاء لدى الجماعات العنفية، مبادلة موت الإرهابي بموت الأبرياء/، ليتحول نظام الطبيعة والحياة للموت.

هي إذاً فرضية العطالة الفكرية وصناعة تاريخ مستدام للعنف المطلق وبقاء جذوره في مناطق جغرافية محددة. فالإرهاب والعنف يقاسان بالنتائج الحقيقية لتطور خطاب الكراهية وتوسيع رقعة الموت والدمار والانتقام، وهي ذات استراتيجية إبقاء الموت في مواجهة الحياة. ويمكن للسلطة والعنف التعاون، لكنهما لا يتشاركان أو يتقاسمان المكان نفسه، فإذا كانت السلطة هي الراعية الرسمية للعنف، فإن جدلية الموت لإزالة السلطة تبدأ بالفشل قبل الاستمرار نفسه، فلا نجاح للعنف والإرهاب بالقضاء على أي نظام سياسي؛ تبعاً لعلاقات القوة والمصالح المتقاطعة بين أكثر الأنظمة مع بعضها بعضاً، ومع صناع القرار الدولي والعالمي، وربما تكون تلك الأنظمة في حالة عداءً لبعضها بعضاً، لكنها تتقاطع أمنياً بهدف الحفاظ على أنفسهم ضد “الإرهاب”.

وتكون الحاجة إلى خلق متخيل شعبي لضمان فرض سيطرتها، فتلجأ إلى خلق المخيال الثوري في وجه المخيال الديني للعنفيين، فيخلق إطاراً رمزياً للموت تحت عنوان الرد الوحيد على الموت هو الموت الموازي، بل موتٌ أكثر قسوة وضراوة، فحين يسعى الإرهاب والعنف لتحدي النظام السياسي القائم في مكان ما، ولا يملك من آليات المواجهة سوى الموت كفرضية دائمة في المواجهة، فإن تلك الأنظمة أيضاً تتجه للانتحار كنتيجة لحجم الدمار والخراب والموت المرافق لعملية المواجهة العسكرية وكل ذلك تحت عنوان فقدان المكانة وهيبة الدولة، لكن تلك الدول لا تلجأ للتفكير لماذا يصل جذر العنف إلى بلادها. وهي فلسفة الموت المتبادل وحلقة مدوخة؛ حيث أن خطة النموذج الإرهابي يقوم على ترسيخ العنف والسعي لهدّم الواقع لتكون كفيلة بتبخيس السلطة المستعدة بدورها أبداً للانقضاض على كل ما يقترب منها كحدود وخطر ولا يجوز المساس بها، وهكذا.

وصحيح أن الناس مسحورون بمفردات التقدم، التقنية، التطور، الاختراعات…إلخ لكنها أيضاً تحولت إلى ارتدادات عكسية، فالعلم الذي أنتج الحضارة والتطور والمنافع الهائلة، هو نفسه العلم الذي اخترع أسلحة فتاكة، وهي الجهة عينها التي اعتمدت عليها الجماعات الراديكالية في تثبيت حلمها/حكمها واعتمدت على المنتوج التقني في الترهيب والعنف والتفخيخ والتفجير، لتكون تلك الاختراعات طوق نجاة للجميع، للساعين صوب الانخراط في الحضارة العالمية، وللراغبين في إرجاع البشرية إلى عصور مظلمة قديمة، تلك الأنظمة تتناسى أن العنف المنبثق من المجتمع ماهو سوى مرآة مفرطة الانعكاس للعنف الممارس من قبل السلطة نفسها على المجتمعات المحلية فالبؤس والفقر والفساد، الألم والظلم هي محركات العنف واستخدام القوة في سبيلها، هؤلاء تحديداً هم من المسحوقين اجتماعياً. والقضية لا تتعلق بالفقير والغني فحسب، فهي ثنائية معقدة، والمشكلة الأساسية ليست في الفقر المادي، إنما في زيادة عدد المسحوقين والمحرومين والمعدومين من العلاج الطبي، التعليم الجيد، المياه النظيفة، البيئة السليمة، وهي في مجملها إهانات تحدد الحجم القيمي للشخص المُهان في دولته، لتصبح تلك الإهانات التي يتعرضون لها من قبل السلطة ظلماً ضخماً تتجاوز خطورة الظلم المادي إلى المعيار الأخلاقي لتقييم الشخص المُهان لقيمته وما ينعكس مباشرة على كل مناحي الحياة القابلة للقياس كالفرح الألم، البؤس الجمال، وتأثيرها المباشر على الوسط الطبيعي الذي يحيا معه.

ويجد الاستبداد في الارهاب والعنف هدّية للخلاص من أعداد ضخمة من الأهالي المصرين على حقوقهم، هي ظاهرة استفادة عنف السلطة من العولمة، فإن كانت الأخيرة تلجأ إلى التدخل في اقتصاديات السوق والتقنيات الحديثة والصناعات المتطورة، العلم والتطور العلمي لكنها جاءت بحدثين متعاكسين معاً، الأول: تدرج مفهوم “المزيد من التسليح هو المزيد من العنف”، ليستفيد الاستبداد من تلك التقنيات في مواجهة حريات الشعوب، والثانية: ففي الوقت الذي سخرت قوة الإرهاب والعنف من جهة، ومن جهة ثانية الأنظمة والدول، للعولمة في صراعاتها وفلسفة الموت، فإن كِلا الطرفين، لم يسعيا للحفاظ على الهويّات الوطنية بتنوعها الإثني والقومي والديني والثقافي.

كل هذا التقدم والتطور الطبي، التقني، العلمي، الاجتماعي المذهل، لا يقلل من إمكانية سلطة التدمير والعنف الشامل المعتمد على تلك التقنية، حيث يجد التاريخ البشري نفسه أمام رهاب الاستخدام العنفي للتقنيات التي تدخل في خدمة البشرية نفسها، وسبب فساد وانهيار مجتمعاتنا هي نفسها سبب تطوره وتقدمه العلمي التكنولوجي، فهل ينبغي الاستمرار في ذلك الطريق إلى ما لا نهاية أم يتوجب البحث عن منافذ ومخارج جديدة للوصول إلى القوة الخلاقة في تسيير مجتمعاتنا، وإذا كان العنف يخاطب عقول المسحوقين أخلاقياً، أفليست الأنظمة شريكة في خلق الإرهاب والعنف، أم يولد الإنسان مفطوراً على العنف؟.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني