العمائم التي دعمت نظام الأسد
لا تصدقوا أن هناك زعيماً مسلماً تسلّم السلطة منذ العهد الأموي وحتى اليوم دون الاستعانة برجال الدين، أو واحدة من المدارس الدينية، فمنهم من أفتى ومنهم من سكت، ومنهم من أبى واستقرت أرض الحكام بسجنه أو نفيه وما إلى ذلك سبيلاً.
كما لم يشهد التاريخ الإسلامي وقوع كارثة للأمة دون أن يكون لرجال الدين دور فيها، فهم دلالة مفصلية على الوقت والمكان، وقد لا يذكرهم التاريخ بقدر ما يذكر مفاسد السلطان، نظراً لأن الناس اعتادت على السكوت عنهم خشية الوقوع في غيبة المضطر، حتى جاءت المدرسة الإسلاموية الدمشقية فبدلت هذه المفردات، ومنحت أصحاب العمائم صك براءة إلى قيام الساعة، وزيادة على ذلك، باتت هذه العمائم تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في شؤون الحياة المجتمعية، فالعمائم حاضرة حيثما وليت وجهك (والبركة) التي توزعها يمنة ويسرة ومجالس الأذكار والزوايا وغير ذلك، كلها متوفرة لطالما هناك غاية، وهي إقناع المجتمع الدمشقي أن مشكلته مع رب العالمين، وبقدر صلاح الأنفس، فكل شيء سيتبدل، وأما فيما يتعلق بمفاسد السلطة والظلم فذلك أمر يتوجب الصمت فيه إلى الأبد.
إن أخطر ما قامت به مؤسسة العمائم السورية أنها كممت أفواه الناس، وكرست فيهم حالة من العبودية والذل، فقد كان متاحاً لهذه العمائم أن توقف نزف الدم فقط لو وقفت بين المتظاهرين المدنيين وبين مطلقي الرصاص من شبيحة النظام، ولو فعلوا ذلك فقط، لهرب بشار الأسد إلى أحضان أمه “أنيسة” ومن لا يعرف دمشق لا يعرف عدد أصحاب العمائم الذين يدرسون أو تخرجوا من معاهدها الدينية، فلو ارتدوا عمائمهم ووقفوا فقط على جبل قاسيون لطغى اللون الأبيض وظن الناس أن الجبل الأقرع حل مكانه.
المؤسسة الدينية السورية التي بناها نظام الأسد أرادها مؤسسة صوفية على أن تكون منبراً منافساً للسلفية من جانب، وللأزهر الشريف من جانب آخر، وكان قبول السوريين لهذه المؤسسة، واستسلامهم لها هو الخطيئة الكبرى، لأن من دون صمتها ما كان يمكن إفساد منظومة الدولة بالكامل، وتحويلها إلى أبشع نظام استبدادي عبر التاريخ، وكان جل ما حصلت عليه هذه العمائم آلاف المساجد وملحقاتها من المعاهد الدينية التي أنجبت جيلاً غارقاً في أوهام حالة التمايز التي يعيشها، حتى تحولت هذه العمائم إلى مادة قادرة على الإمساك بالشعب، ومن يعتقد أن هيمنة أجهزة المخابرات القمعية تمت دون هيمنة أصحاب العمائم على المجتمع فهو لا يدرك تأثيرهم على الناس.
عندما انطلقت الثورة السلمية في سوريا لم يكن مطلوباً من أصحاب العمائم أكثر من الصمت إن جاز ذلك، أو الرحيل خلف الراحلين، ولا نقول رحيلاً كرحيل العالم الدمشقي الأعظم “العز بن عبد السلام” أو العمل على تقليد خطاه، وهو العالم الذي رحل عن القاهرة عندما أصر على بيع المماليك، فرفضوا فاختار الهجرة، فخرجت مصر وراءه، فخضع المماليك لحكمه الشهير فباعهم لمن يشتريهم.
باختصار، لقد صمد نظام الأسد لأن المؤسسة الدينية وقفت وراءه، فمنهم من رآه صلاح الدين الأيوبي ومنهم من رآه فوق ذلك، ومنهم من ظن أن الصمت جالب للحب والنوى، غير أنه لا فرق بين عمائم المعارضة وعمائم النظام، فجميع هذه العمائم خدمت استمرار وجود النظام، ومازال السياسي يستميل رجل الدين، وما زال الناس يتوسمون برجل الدين خيراً، دون أن يدركوا أن السياسة والدين أمران لا يلتقيان إلا على جسد الضحية، ولهذا ما لم يفترقا فلن تكون هناك دولة.