fbpx

العدالة في سوريا وامتحان سيادة القانون

0 31

في كل مجتمع متحضر، يُعتبر القضاء حجر الزاوية الذي ترتكز عليه فكرة العدالة وسيادة القانون. والقاضي، بصفته حارساً للحق، يجب أن يُحترم ويُصان كي يؤدي رسالته النبيلة على أكمل وجه. لذلك، فإن أي تهديد أو اعتداء يقع على القاضي أثناء تأدية مهامه، لايعد مساساً بشخصه فحسب، بل تهديداً لأركان النظام القانوني بأكمله.

إن حادثة الاعتداء على قاضٍ في مدينة حلب تُعد حدثاً مفصلياً يعكس حجم التحديات التي تواجه مسار بناء دولة القانون في سوريا ما بعد الاستبداد. فحين يتعرض قاضٍ، داخل القصر العدلي، للضرب المبرح على يد عناصر من قوى الأمن الداخلي، وتُوثَّق الكدمات على جسده، فإن ذلك لا يُعد مجرد انتهاك شخصي، بل يمثل تهديداً جوهرياً لسلطة القضاء ولمبدأ سيادة القانون الذي يُفترض أن يشكّل أساس الدولة الجديدة.

هذا الاعتداء، الذي بُرر بادعاءات تتعلق بصلات القاضي بمحاكم “الإرهاب” التابعة للنظام السابق، قوبل برفض واسع، لا سيما بعد صدور بيان رسمي من وزارة العدل ينفي هذه المزاعم بشكل قاطع، ويؤكد أنها ليست سوى محاولة لتبرير الانتهاك. وقد ردت الأوساط القضائية والقانونية بتحرك احتجاجي داخل باحة القصر العدلي، في تعبير واضح عن رفض استباحة هيبة القضاء. وأعلنت السلطات عن توقيف عدد من المشتبه بهم وفتح تحقيق عاجل بناء على توجيهات وزيري العدل والداخلية، في خطوة تعكس إدراكها بأن احترام القانون وسيادته هو الركيزة الأساسية لأي دولة تسعى إلى تحقيق الاستقرار والعدل.

وانطلاقاً من هذه التطورات، عبر القاضي رمضان الزحمان، بوضوح عن أهمية احترام القضاء، مشدداً على أن التجاوزات مهما كانت أسبابها، يجب أن تُردع بالقانون وليس بالعنف أو الاستباحة. ذلك أن القانون هو المعيار الذي يرسخ مكانة القضاء ويضمن نزاهته وحياده.

وأكد أن احترام القاضي لا ينبع من مكانته الشخصية، بل من الرسالة التي يجسّدها، ما يسلّط الضوء على خطورة التعدي على القضاة، باعتباره اعتداءً على مبدأ العدالة ذاته. إذ إن أي انحراف في هذا الاتجاه يُعد انزلاقاً ناعماً ولكن بالغ الخطورة نحو دولة بلا مرجعية، حيث يُملى “الحق” من فوهة السلاح لا من منصة القضاء.

وأوضح الزحمان” إن ترسيخ سيادة القانون ضرورة وجودية، لا مجرد ترف قانوني. مشيراً إلى أن استقلال القضاء هو الحارس الأول ضد الانزلاق نحو الفوضى أو “شريعة الغاب”، وهو شرط جوهري لتحقيق العدالة وضمان الاستقرار ومنع دوامات الانتقام. كما أن فشل مؤسسات الدولة في حماية القضاة ومنحهم الحصانة الكافية لأداء رسالتهم، يؤدي حتماً إلى انهيار الثقة الشعبية في منظومة العدالة، ويفسح المجال أمام الفوضى والتصفيات الفردية”.

وفي سياق متصل، شدد الزحمان على وجوب عزل كل قاضٍ فاسد، باعتبار هذا المطلب من أولويات الثورة ومنطلقاً شرعياً وشعبياً لا لبس فيه. ومع ذلك، شدد على أن الرغبة في “التطهير” يجب أن تمر عبر قنوات مؤسساتية واضحة، كالمجالس التأديبية، وهيئات التفتيش القضائي، والإجراءات النظامية المنصوص عليها في القانون لا أن تتحول إلى انتقام شخصي يضر بأسس الدولة. مؤكداً أن الفارق الجوهري بين الدول والميليشيات يكمن في احترام القوانين، وقدرة المؤسسات على إخضاع الجميع للمساءلة ضمن أطر دستورية دون استثناء.

وانطلاقاً من هذه التحديات التي تجلّت في حادثة الاعتداء على القضاء، تبرز العدالة الانتقالية كخيار استراتيجي لمعالجة إرث الانتهاكات وبناء مستقبل مشترك. فهي لا تقتصر على كونها آليّةً للمحاسبة الجنائية فحسب، بل تشكّل مشروعاً لتأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة والمؤسسية والمساءلة. وتستند هذه العملية إلى أركان أربعة متلازمة: المساءلة الجنائية، كشف الحقيقة والسعي للمصالحة، جبر الضرر مادياً ورمزياً، وإصلاح المؤسسات عبر هيكلتها لضمان الحياد والكفاءة. وأي إخلال بهذا النسق المتكامل يُهدد المنظومة برمّتها بالانهيار.

في ظل هذه الهشاشة المؤسسية، لم يكن الإعلان عن تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” سوى خطوة أولى _ وإن كانت ضرورية _ مستندة إلى فراغ تشريعي خطير. فغياب سلطة تشريعية فاعلة يحولها إلى هيكل بلا أدوات، إذ تبقى ضمانات نجاحها رهينة بتوفر استقلال مالي وإداري، وآليات تعيين شفافة تحمي الأعضاء من التهديد أو العزل التعسفي، وصلاحيات تحقيق تمنع تسيس عملها. كما يتطلب نجاحها تكاملاً مؤسسياً مع القضاء يمنع الازدواجية، ويضمن تحويل الأدلة إلى محاكم نزيهة.

وفي نهاية المطاف، هل يمكن اعتبار الحوادث التي تمس القضاء مجرد وقائع عابرة، أم أنها إشارات تحذيرية تستوجب التوقف العميق والمساءلة الجدية؟ فإذا كانت سيادة القانون هي ما يعزز الثقة بين المواطن والدولة، ويصون الأمن والاستقرار، فكيف لنا أن نبني مجتمعاً متماسكاً على أسس العدالة والإنصاف، إذا ما تهاونّا في حماية من يقف على منصة العدالة نفسها؟.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني