fbpx

العدالة الشاملة.. كيف نعيد بناء حياة الناجيات من الاعتقال في سوريا

0 62

عندما اندلعت شرارة الحراك الشعبي السوري عام 2011، وقفت النساء في الصفوف الأمامية للمظاهرات السلمية، حاملات معهن أحلام الحرية والكرامة والعدالة. لم يكن دورهن مقتصراً على المشاركة في الاحتجاجات فحسب، بل تجاوز ذلك إلى قيادة المبادرات الإنسانية والحقوقية، وتقديم الدعم للنازحين والجرحى والمتضررين. لكن هذا الدور البارز لم يمر دون ثمن، فقد تحولن إلى أهداف للقمع الممنهج، حيث استخدمت الأجهزة الأمنية الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري كأدوات لإسكات أصواتهن، وبعد أكثر من عقد من الزمن، لا تزال قضية الناجيات من الاعتقال واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في سوريا. هؤلاء النساء خرجن من المعتقلات حاملات معهن جراحاً جسدية ونفسية عميقة، بالإضافة إلى تحديات اجتماعية واقتصادية وقانونية تعيق اندماجهن في المجتمع. وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن تحقيق العدالة لهن؟ وكيف يمكن ضمان أن تكون هذه العدالة شاملة وتلبي احتياجاتهن الحقيقية؟

في خضم التحولات التي تشهدها سوريا بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، تبرز العدالة الانتقالية كمسار حيوي لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة التي عانت منها الناجيات من الاعتقال والتعذيب، هذه العدالة ليست مجرد إجراء قانوني أو سياسي، بل هي عملية شاملة تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضمان عدم تكرار الانتهاكات التي عاشتها البلاد لعقود.

من ناحية أخرى، معاناة الناجيات من الاعتقال لا تنتهي عند لحظة الإفراج عنهن، بل تمتد لتصبح جزءاً من حياتهن اليومية، فداخل جدران المعتقلات، تعرضت هؤلاء النساء لأشكال متعددة من العنف، بدءاً من التعذيب الجسدي والنفسي، وصولاً إلى العنف الجنسي الذي استُخدم كأداة حرب ممنهجة، هذه الانتهاكات تركت آثاراً عميقة على صحتهن الجسدية والنفسية، حيث يعانين من أمراض مزمنة مثل الفشل الكلوي، مشاكل الإنجاب، والاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.

في هذا السياق، يعد كشف الحقيقة الخطوة الأولى نحو تحقيق العدالة، وتشكيل لجان تحقيق مستقلة لتوثيق الانتهاكات التي تعرضت لها الناجيات يعد أمراً ضرورياً لإظهار هذه الحقائق للجمهور. هذا الكشف ليس فقط وسيلة لتحقيق العدالة، بل أيضاً خطوة أساسية نحو تعافي المجتمع بأكمله، حيث يساهم في بناء سردية مشتركة تعترف بمعاناة الضحايا وتعيد الاعتبار لكرامتهم.

إلى جانب ذلك، يبرز جبر الضرر كعنصر أساسي في عملية العدالة الانتقالية. الناجيات بحاجة إلى تعويضات مادية ومعنوية تساعدهن على تجاوز آثار الصدمات التي تعرضن لها، هذه التعويضات يمكن أن تأتي على شكل رعاية صحية ونفسية متخصصة، خاصة في ظل الوضع المتردي للنظام الصحي السوري الذي يحتاج إلى إعادة إعمار شاملة. علاوة على ذلك، يمكن توفير دعم مالي وبرامج تدريب مهني لتمكين الناجيات اقتصادياً، مما يسمح لهن بإعادة بناء حياتهن واستعادة استقلاليتهن المالية.

من جهة أخرى، يعد إصلاح المؤسسات ركيزة أساسية في مسار العدالة الانتقالية. الجهاز القضائي والأجهزة الأمنية، التي كانت أدوات قمع في عهد النظام السابق، تحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية لتصبح أدوات خدمة للمجتمع، هذا الإصلاح يتطلب تدريب الكوادر القضائية والأمنية على احترام حقوق الإنسان، وإنشاء آليات رقابة مستقلة تضمن عدم تكرار الانتهاكات، كما يجب إصلاح القوانين لتتوافق مع المعايير الدولية، بدون ذلك، ستبقى العدالة الانتقالية عملية ناقصة وغير قادرة على تحقيق التحول المنشود.

في المقابل، تعد مشاركة الناجيات في عملية صنع القرار عنصراً حاسماً لضمان أن تكون العدالة الانتقالية شاملة وتلبي احتياجاتهن الحقيقية، فالناجيات يجب أن يكن جزءاً من لجان الحقيقة، والمشاورات حول إصلاح المؤسسات، ووضع برامج جبر الضرر. مشاركتهن تضمن أن تكون العملية الانتقالية عادلة وتمثيلية، وتعزز ثقتهن في إمكانية تحقيق العدالة، هذه المشاركة ليست فقط حقاً للناجيات، بل أيضاً وسيلة لضمان أن تكون العدالة الانتقالية عملية تحويلية تعيد بناء المجتمع على أسس جديدة.

في هذا الإطار، يبقى دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية محورياً في دعم هذه العملية. منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً حاسماً في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني للناجيات، وفي الضغط على الحكومات لتحقيق العدالة، على الصعيد الدولي، يمكن للآليات مثل المحكمة الجنائية الدولية والآلية الدولية المحايدة والمستقلة أن تسهم في محاسبة الجناة من خلال جمع الأدلة وتوثيق الانتهاكات. بالإضافة إلى ذلك، يجب على المجتمع الدولي دعم برامج إعادة تأهيل الناجيات وتمكينهن اقتصادياً، سواء من خلال تمويل برامج التدريب المهني أو تقديم الدعم المالي.

رغم ذلك، يواجه تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا تحديات جسيمة. الوصمة الاجتماعية التي تواجهها الناجيات في مجتمع محافظ تبقى عقبة كبيرة، حيث قد يرفض المجتمع تقبل قصصهن أو دعمهن، إلى جانب ذلك، ضعف آليات المحاسبة المحلية وصعوبة الوصول إلى العدالة الدولية في ظل غياب نظام قضائي مستقل يزيد من تعقيد المهمة، وللتغلب على هذه التحديات، يجب توفير الرعاية الصحية والنفسية للناجيات من خلال مراكز متخصصة، وتقديم تعويضات مادية تساعدهن على إعادة بناء حياتهن، كما يجب تمكينهن اقتصادياً عبر برامج تدريب مهني وتوفير فرص عمل، وتعزيز مشاركتهن في صنع القرار لضمان أن تكون أصواتهن مسموعة.

في الختام، تحقيق العدالة الانتقالية للناجيات من الاعتقال في سوريا ليس مجرد مسألة قانونية أو سياسية، بل هو مسار إنساني وأخلاقي يهدف إلى إعادة بناء المجتمع على أسس العدل والكرامة، هذه العملية تتطلب جهوداً متكاملة تشمل كشف الحقيقة، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، ومشاركة الناجيات في صنع القرار. رغم التحديات الجسيمة التي تواجه هذا المسار، من وصمة اجتماعية إلى ضعف آليات المحاسبة، إلا أن الإرادة الجماعية للمجتمع المدني والمؤسسات الدولية يمكن أن تكون قوة دافعة نحو تحقيق العدالة.

في النهاية، العدالة الانتقالية ليست فقط عن محاسبة الماضي، بل هي أيضاً عن بناء مستقبل يضمن عدم تكرار الانتهاكات، ويعيد للناجيات حقوقهن وكرامتهن. في هذا السياق، تصبح العدالة ليست مجرد هدف، بل هي رحلة نحو مجتمع أكثر إنسانية وعدلاً، حيث يمكن للناجيات أن يجدن مكاناً آمناً لاستعادة حياتهن ومساهمتهن في بناء سوريا جديدة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني