fbpx

العدالة الانتقالية في سورية ما بعد نظام بشار الأسد: تحليل قانوني وسياسي لتشكيل الهيئة الوطنية بموجب المرسوم الرئاسي رقم (20) لعام 2025

0 32

الخلفية السياسية والحقوقية

منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، شهدت سورية سلسلة انتهاكات جسيمة نفذها نظام بشار الأسد ضد المدنيين (من قصف بالبراميل المتفجرة إلى هجمات بالأسلحة الكيميائية وعمليات اعتقال وتعذيب واختفاء قسري)، ما أفضى إلى مقتل وفقدان مئات الآلاف من السوريين. مع سقوط النظام السابق وتشكيل حكومة انتقالية جديدة برئاسة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، تصاعدت المطالب المحلية والدولية بتحقيق العدالة الانتقالية ومعاقبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات. وشددت مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري في فبراير/شباط 2025 على ضرورة العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي النظام السابق، مؤكدة التزام الدولة «بناء دولة القانون وضمان حقوق الضحايا». أيضاً جددت تصريحات قيادة الدولة السورية الجديدة التأكيد على ملاحقة «المجرمين» وتحقيق العدالة للشعب. على المستوى الدولي، رحّب الاتحاد الأوروبي بتشكيل هيئتي العدالة الانتقالية والمفقودين واعتبر ذلك خطوة مهمة نحو “العدالة الشاملة والحقيقة التي يستحقها الشعب السوري”. إجمالاً، شكّلت هذه الخلفية من الجرائم الموثقة والمطالب الحقوقية والمحلية أرضية ملائمة لإصدار المرسوم الرئاسي رقم (20) لعام 2025 بتشكيل «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية» في 17 أيار/مايو 2025.

التحليل القانوني لنص المرسوم الرئاسي

يبدأ المرسوم باعتباره الصادر عن رئيس الجمهورية الانتقالي استناداً للصلاحيات الرئاسية «وأحكام الإعلان الدستوري» لعام 2025، مع التأكيد على أن العدالة الانتقالية تُعد ركيزة أساسية لبناء دولة القانون وضمان حقوق الضحايا. وينص المرسوم على تشكيل هيئة مستقلة (نتمنى أن تضم من وقعت عليهم الأذية بسبب نظام بشار الأسد من ذوي المفقودين والشهداء والجرحى ) باسم “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” تعنى بـ«كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها. وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية».

الصلاحيات واختصاصات الهيئة: تكمن مهام الهيئة في توثيق الحقائق ومحاكمة الجناة وتعويض الضحايا، وتنطلق مبادئ عملها من ضمانات عدم تكرار الانتهاكات وتعزيز المصالحة. المرسوم لم يحدد لاحقاً تقنيات التحقيقات أو سلطات قضائية محددة، بل أشارت إلى «التنسيق مع الجهات المعنية» (على الأرجح القضاء والنيابة العامة) لإنجاز مهام المساءلة. كما كُلّفت بإعداد «النظام الداخلي» للهيئة خلال 30 يوماً، ما يفترض وضع قواعد مفصلة لاحقاً.

آلية التعيين والاستقلالية: عيّن المرسوم الدكتور عبد الباسط عبد اللطيف رئيساً للهيئة ومكّنه من تشكيل فريق العمل الداخلي. وتم التأكيد على أن الهيئة «تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية». عملياً، هذا يمنح الهيئة قدرة قانونية مستقلة، لكن انتقاداً حقوقياً لفت إلى أن تحديد الهيئة بمرسوم تنفيذي (بدل قانون تشريعي) قد يضعف شرعيتها ويقوّض استقلالها عن السلطة التنفيذية. وهنا أنبّه إلى غياب نص واضح يضمن مشاركة المجتمع المدني أو ذوي الضحايا في تشكيل الهيئة أو مراقبتها، مما يثير تساؤلات حول مدخلية الضحايا في آلياتها.

هيكلية الهيئة ومدى الشمول: نص المرسوم على هيئة واحدة غير محددة العدد، إضافة إلى رئيس الهيئة، ومن المحتمل أن تتكون لاحقاً من لجان فرعية (مثل لجان تحقيق وجبر ضرر). يلاحظ أن المرسوم اقتصر في مهمات الهيئة على الانتهاكات «التي تسبب فيها النظام البائد» فقط، دون ذكر الانتهاكات المرتكبة من أطراف أخرى (كالفصائل المسلحة أو تنظيم الدولة مثلاً)، وهو ما اعتَبره نقطة ضعف وأطالب بالشمولية في مسار العدالة الانتقالية. مع ذلك، منح المرسوم جميع ضحايا انتهاكات النظام السابق صفة استحقاق التعويض والوصول للعدالة، وهو ما يشمل ضحايا القمع السياسي والاعتقال التعسفي والتعذيب، انسجاماً مع سياق العدالة الانتقالية.

مقارنة نص المرسوم بنص الإعلان الدستوري (المادتان 48 و49)

يؤسس المرسوم إلى العمل بمنهج العدالة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري لعام 2025، ومن ثم لا بد من مقارنته بالمادتين 48 و49 منه:

المادة 48 تُلزم الدولة «تمهيد الأرضية المناسبة لتحقيق العدالة الانتقالية» عبر إجراء إصلاحات قانونية (كإلغاء القوانين الاستثنائية وأحكام محكمة الإرهاب والإجراءات الأمنية التعسفية). هذه الإجراءات الاستباقية تهيئ مناخاً قانونياً لعمل الهيئة. المرسوم الرئاسي لم يشر صراحة إلى إلغاء هذه القوانين أو إعادة فتح قضايا ماضية، بل ركز على إنشاء الهيئة وتنصيب رئيسها. يمكن القول إن المرسوم يكمل المادة 48 من حيث إطلاق عملية العدالة، لكنه لم يضف تدابير تعديل القوانين ذاتها؛ ربما يُنظر إلى ذلك كخطوة لاحقة تُتخذ عبر تشريعات مرافقة أو تفسير قضائي.

المادة 49 تنص على إحداث هيئة للعدالة الانتقالية تعتمد «آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا» لتحديد سبل المساءلة وحق معرفة الحقيقة وإنصاف الضحايا، كما تُنص ضمنياً على احترام مبدأ عدم رجعية القوانين للجرائم الخطيرة. تتوافق فكرة المادة 49 مع إنشاء الهيئة في المرسوم، فكلاهما يؤسس لهيئة وطنية لها نفس التوجه (التركيز على الحقوق والمساءلة). ومع ذلك، ثمة فروق: المادة الدستورية تركز على كونها هيئة تشاورية ومركزها الضحايا (وحتى تكريم الشهداء)، في حين صيغة المرسوم اقتصرت على وصف المهام بصورة عامة دون ذكر آليات تشاركية أو حق التمثيل للضحايا. كذلك، فرضت المادة 49 إطاراً قانونياً يرتبط بالمعايير الدولية والجرائم الكبرى (مع استثناء عدم انطباق مبدأ عدم الرجعية عليها)، بينما المرسوم لم يتناول هذه التفاصيل الجنائية أو الإجرائية. خلاصة القول، المرسوم يُطبِّق روح المادتين 48-49 في تأسيس عدالة انتقالية، ولكنه يختلف من حيث تفصيل التطبيق (من حيث ضبط آليات المشاركة التشاورية وتحديد الجرائم وخريطة القانون المطلوب تعديله).

المعايير الدولية للعدالة الانتقالية ومدى استجابة الهيئة لها

تُعرف العدالة الانتقالية دولياً بأربع ركائز رئيسية: المسائلة الجنائية للمتورطين، كشف الحقائق (عمليات إظهار ما جرى وتوثيقه)، جبر الضرر للضحايا (تعويضات مالية ومعنوية ومساعدات)، وضمان عدم تكرار الانتهاكات عبر إصلاحات قانونية ومعيشية. كما تشدد الأطر الدولية (مثل المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان) على مشاركة المجتمع المدني والضحايا في هذه العمليات، واستقلالية آليات العدالة، وحقوق الضحايا كأطراف فاعلة.

المرسوم وبذلك يحاكي هذه الركائز بوضوح: فالهيئة مكلفة بكشف الحقائق ومحاسبة المسؤولين (مسندةً بذلك مطلب المساءلة الجنائية)، وبتعويض الضحايا (جبر الضرر)، وبترسيم مبدأ عدم التكرار والمصالحة. كونه هيئة مستقلة قانونياً ومستقلة مالياً وإدارياً يعزز من استقلالية العملية. غير أن التوافق مع المعايير الدولية يطرح تساؤلات:

المساءلة: نص المرسوم على «ممارسة المساءلة بالتنسيق مع الجهات المعنية»، لكن لم يحدد مدى سلطات الهيئة. في النظم المماثلة، تتاح للهيئة إحالات قضائية أو جلسات استماع خاصة، بينما المرسوم يكتفي بعبارات عامة. ولا يعرف بعد إن كانت الهيئة ستملك صلاحية فتح تحقيقات قضائية رسمية أو مجرد توثيق وتوصية. ما أراه، ستشمل المحاكمات أولئك المثبت تورطهم، لكن العملية قد تحتاج وقتاً لإعداد أدلة قانونية قابلة للإجراءات القضائية.

كشف الحقيقة: توافر هيئة موكلة حصراً بهذه المهمة يتوافق مع المعيار الدولي لحق المجتمع في المعرفة عن الجرائم السابقة. يُفترض أن تُجري جلسات استماع علنية ومتلفزة وإنشاء سجلات للاعترافات والشهادات. المرسوم لا ينص على إجراءات محددة (مثل إجراء جلسات عامة أو تقارير دورية)، الأمر الذي يتطلب توضيحاً لاحقاً في نظامها الداخلي.

جبر الضرر: المرسوم يؤكد «تعويض الضحايا»، وهو بند أساسي دولياً، لكنه لم يوضح شكل جبر الضرر (مادي أو معنوي، إعادة ممتلكات، رعاية صحية، إلخ). مطالبة الناشطين السوريين تشير إلى أهمية تحديد آلية واضحة لتعويض ضحايا كل أطياف النزاع.

عدم التكرار: تدعو المعايير الدولية إلى إصلاح مؤسسات الأمن والقضاء (الجميع تحت القانون) لمنع العودة إلى الانتهاكات. هنا أورد المرسوم المبادئ العامة دون تفصيل ضامن للتنفيذ (لم يذكر مثلاً قانون المصالحة أو البرامج الأمنية). ينبغي لاحقاً تضمين إصلاحات كـ «قوانين العفو»، و«تأهيل الأجهزة الأمنية»، لضمان فعالية هذه الركيزة.

الاستقلالية والمشاركة: المرسوم يؤكد الشخصية الاعتبارية للهيئة، مما يقترب من ضرورة الاستقلال. لكن لاحظت هنا غياب معايير لاختيار أعضاء الهيئة وأعضاء لجانها، وحصر سلطة الاختيار بالرئيس المكلّف دون إشراف أو معايير واضحة. هذا يثير مخاوف من تأثير السلطة التنفيذية على الهيئة، ما يدعو إلى وضع آليات رقابة شفافة ومشاركة مدنية فعّالة. كما أحذّر من عدم إشراك ممثلي الضحايا أو المجتمع المدني في إعداد النظام الداخلي أو عمل اللجان، وهو ما يتعارض مع مبادئ العدالة الانتقالية التي تركز على تمثيل الضحايا في صياغة الحلول.

بالخلاصة، يتبنّى المرسوم هيكل العدالة الانتقالية المطلوب دولياً، لكنه يبقى بحاجة إلى تفصيل عملي لهذه المعايير (وضع آليات التحقيق وإشراك الضحايا وضمانات الإشراف)، كي لا تظل مهام الهيئة أسيرةً لصياغة شكلية.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني