الصراع على أوكرانيا (1)
1- في سياقات الغزو
بعيداً عن ردات الفعل والمواقف “أحادية الجانب” تجاه الصراع على أوكرانيا – التي تقتصر عند بعضهم على تحميل سلطة النظام الروسي ورئيسها المسؤولية الأساسية عن الغزو، لاعتقادهم أن الدافع الرئيسي للحرب مرتبط بأحلام إعادة بناء “روسيا العظمى”، وفي سلوك أقرب إلى “هتلر”؛ أو تلقيها بشكل كامل على عاتق الولايات المتحدة والنظام الأوكراني، اللذين كان لجهودهم المتواصلة “لسلخ” أوكرانيا عن روسيا، دون الأخذ بعين الاعتبار حقائق مجالها الحيوي والأخطار التي تهدد أمنها القومي، الدافع الأول لقرار الغزو – أحاول أن أقرأ الصراع على أوكرانيا في سياقه العام، وأبين اسبابه البعيدة والمباشرة في دوافع وسياسات القوى الرئيسة المتورطة – أنظمة روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا، وحكومات الاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا – تاركاً للقارئ الدقيق حرية تقدير درجة مسؤولية كل طرف في صناعة هذه الكارثة.
بكل الأحوال، يؤلمنا نحن السوريين تفجر حرب أخرى، لا تقل تدميراً، عن الحرب في سوريا، وتتقاطع معها في جوانب عديدة. فقد كانت لمصالح وسياسات حكومات الولايات المتحدة وروسيا (والاتحاد الأوروبي) أدوار متكاملة في تفشيل مسار حل سياسي خلال 2011، ودفع الصراع على مسارات الخيار العسكري الطائفي، واستمراره، وما نتج عنه من الوصول بسوريا إلى حالة التقسيم الراهنة؛ ولا تقلل هذه القراءة من مسؤولية الشركاء الآخرين، على الصعيد الإقليمي وأذرعهم السورية، الذين يتشاركون اليوم سلطات الأمر الواقع.
على أية حال، الرؤية التي أحاول مقاربتها تقول إن الحرب الحالية على أوكرانيا هي تلك اللحظة التاريخية التي تقاطعت عندها عوامل السياق التاريخي القريب للصراع على أوروبا في مرحلة الحرب الباردة الثانية بين روسيا والولايات المتحدة – التي بدأت أولى معاركها عام 1996، بقرار توسيع النيتو شرقاً، في جهد واضح لاحتواء تعاظم النفوذ الروسي على أوروبا – مع عوامل السياق التاريخي الطويل، التي صنعتها الخطط الاستراتيجية للولايات المتحدة؛ في سياق سعيها الدؤوب لمنع تشكل كيان أوروبٍي، موحد، مستقل وفاعل في إطار العلاقات الدولية، ولإبقاء هيمنتها على أوروبا، في سياق سياسات السيطرة الإمبريالية على العالم.
في إطار هذه الرؤية والمنهج، أستهل التحليل بملاحظات أساسية في خطط السيطرة الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية أولاً، وبأدوات تحقيقها، ثانياً.
أولاً: ملاحظات أولية حول موقع أوروبا في الخطط الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
لنستمع إلى ما يقوله السياسي والأكاديميى الأمريكي،” جون ميرشايمر”[1] في إحدى محاضراته الساخنة حول المصالح الاستراتيجية الجوهرية للولايات المتحدة، التي تستحق القتال من أجلها!!
“منذ أن حصلت الولايات المتحدة على استقلالها 1783 كانت أوروبة الموقع العالمي الأكثر أهمية في خطط ومصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، وكانت تحتل دائماً حتى العام 2000 الموقع رقم واحد في قائمة أولويات السياسات الخارجية.
أوروبا، الخليج العربي (الفارسي)، و” شمال شرق آسيا”. ثم يتحدث عن تغيير ما في الأولويات، بعد العام 2000، تأخذ فيه منطقة “شمال شرق آسيا”، (اليابان، بحر الصين الجنوبي والصين – تايوان) المقدمة، وتتراجع موقع أوروبا الى المرتبة الثالثة؛ دون أن يتأثر، في كلا المرحلتين، مركز المرتبة الثانية للخليج، مثلث الطاقة العالمي – إيران العراق والسعودية.
في نفس السياق، وفي حديثه عن استراتيجيات الولايات المتحدة العالمية، يتحدث الدكتور “سمير التقي”[2] في إحدى إطلالاته التحليلية عن “انسحاب أمريكي” من منطقة الشرق الأوسط، وجبه الحاجة لكبح جماح صعود الصين؛ بما يوحي بوضع “شمال شرق آسيا” في المرتبة الأولى، يليها أوروبا، في استراتيجيات واشنطن، وتراجع موقع “الخليج العربي” في قائمة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة!؟.
دون التقليل من أهمية الأطروحات الآنفة الذكر، يجب ألا يغيب عن بالنا أن الحقيقة الموضوعة ليست دائماً هي الهاجس الوحيد في نظريات ومقاربات الباحثين الأكثر شهرة، خاصة عندما تتعارض مع سياسات ومصالح مراكز البحوث والحكومات التي يعملون لها!
أعتقد شخصياً أن حقائق الواقع وأحداثه هي الحَكَمْ النهائي في تحديد صحة طرح ما، أو دقة رؤى استراتيجية.
تبين أهم معارك الصراع في منطقتنا والعالم منذ 1990، قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، وبعده، وحتى ساعة غزو أوكرانيا في 24 شباط 2022، بقاء أوروبا على رأس قائمة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، وعدم استمرار بقاء منطقة “الخليج الفارسي” في المرتبة الثانية، بل صعودها إلى نفس موقع أهمية أوروبا؛ دون أن يقلل هذا الاستنتاج من أهمية الموقع الذي تحتله الصين في هواجس الولايات المتحدة[3]، وقد جسدت هذه الحقيقة سياسات واشنطن العملية لإحكام هيمنة مزدوجة على أوروبة ومنطقة “مثلث الطاقة العالمي” في إيران والسعودية والعراق، ومحيطه الجيوسياسي، أفغانستان سوريا واليمن، في نفس الوقت، وعلى مسارين متوازيين!.
لنحتَكِم إلى الواقع، وحقائقه
منذ 1989، وفي ترابط واضح بين المسارين، تركزت جهود الولايات المتحدة على مسار تفكيك دول “المنظمومة السوفياتية”، وتقسيم المفكك، وتعويم “أنظمة ديمقراطية” في شرق أوروبا وجنوبها ووسطها، تدور في فلكها، وصولاً إلى تخوم روسيا[4]، من جهة أولى، وعملت بأقصى طاقاتها السياسية والعسكرية من جهة ثانية، على المسار الخليجي الموازي، وسعت بشكل حثيث لإستثمار نتائج حرب الثمانية سنوات بين الجارين اللدودين، النظامين الإيراني والعراقي، وتصيد “صدام حسين” في الكويت، وتحشيد مئات ألوف المقاتلين في السعودية، تحضيراً للسناريو القادم؛ غزو العراق، بعد احتلال افغانستان، وما نتج من استجرار مئات ألوف المقاتلين، واحتلال مباشر لقلب منطقة الشرق الأوسط، وفتح أبواب المنطقة أمام سيطرة أمريكية غيرة مسبوقة، وعبر شراكة حقيقية، ماتزال ملتبسة على الوعي السياسي النخبوي، مع أدوات المشروع الطائفي الإيراني.
فهل كانت محض صدفة أن يتزامن الجهد الأمريكي، في أوروبة وفي منطقة الخليج، وما حققه من إنجازات، عززت أحادية القيادة القطبية الأمريكية للنظام العالمي الجديد.
قد نحصل على الجواب الواضح من خلال إدراكنا لطبيعة العامل المشترك في معادلة الحرب التي خاضتها واشنطن منذ 1990، على كلا المسارين.
[1]– https://youtu.be/JrMiSQAGOS4 Why is Ukrine the West’s fault?
جون ميرشايمر، John J.Mearsheimer من مواليد 1947، نيويورك، وهو باحث أمريكي بارز في العلاقات الدولية. حصل على درجة الماجستير (1974) في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، وكذلك الماجستير (1978) والدكتوراه (1981)، من جامعة كورنيل. أصبح لاحقاً زميلاً باحثاً في معهد بروكينغز (1979-1980) وباحثاً مشاركاً في جامعة هارفارد 1980-1982، حين أصبح أستاذاً في العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وحيث تم تعيينه أستاذاً متميزاً.. ومستشاراً.
مثل معظم علماء العلاقات الدولية في جيله، تأثر ميرشايمر بـ “كينيث والتز “، مؤسس مدرسة العلاقات الدولية المعروفة باسم “الواقعية الجديدة”.
في نموذج “والتز”، فإن عدم وجود سلطة فوق الدول، (حالة الفوضى في العلاقات الدولية بسبب عدم وجود سلطة فوق الدول للتحكيم في نزعاتها)، يجبرها على عقد تحالفات من أجل احتواء التهديدات التي تشكلها القوى المنافسة، بمعنى، يتم تحديد النظام الدولي من خلال ميزان القوى بين الدول، والحاجة إلى الأمن تدفع الدول إلى تفضيل الوضع الراهن واتخاذ موقف دفاعي تجاه منافسيها.
رأي “ميرشايمر” المناقض، الذي أسماه “الواقعية الهجومية” يقول بعدم تعاون الدول، إلا خلال التحالفات المؤقتة، ولكنها تسعى باستمرار إلى تقليص قوة منافسيها، وخلص إلى أنه نظراً لأن الدول لا تستطيع أن تعرف على وجه اليقين النوايا الحالية أو المستقبلية للدول الأخرى، فمن المنطقي بالنسبة لها محاولة استباق أعمال العدوان المحتملة من خلال زيادة قوتها العسكرية وتبني أسلوب حازم كلما كانت مصالحهم الأمنية الأساسية على المحك.
فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة، دعا إلى استراتيجية “التوازن العالمي” بدلاً من “الهيمنة العالمية”، وقال إن القوة العظمى مثل الولايات المتحدة يجب ألا تحاول فرض حكمها على جميع القارات ولكن يجب أن تتدخل فقط عندما تهدد مصالحها قوة كبرى أخرى، ذات أهمية استراتيجية. دعا ميرشايمر بشكل خاص إلى انسحاب جميع القوات الأمريكية من أوروبا، بحجة أن وجودها هناك غير منطقي، حيث لا توجد دولة تهدد حالياً بالسيطرة على القارة.
في عام 2007، شارك ميرشايمر في تأليف الكتاب الأكثر إثارة للجدل؛ “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”.
تضمنت أعماله الأخرى؛ “الردع التقليدي” 1983، “وليدل هارت ووزن التاريخ” 1988، “ولماذا يكذب القادة؟. الحقيقة حول الكذب في السياسة الدولية” 2011، “الوهم العظيم: الأحلام الليبرالية والحقائق الدولية” 2018، وعشرات المقالات المنشورة في المجلات الأكاديمية. كما يشارك بشكل متكرر في المناقشات العامة من خلال محاضرات ومقالات افتتاحية لصحيفة نيويورك تايمز والصحف الأمريكية الأخرى.
[2]– الدكتور “سمير التقي” مواليد حلب، 1951، خريج كلية الطب 1975، جراح قلب وصدر. خلال 1994-1998، خدم لفترة واحدة كعضو في” مجلس النواب” السوري.
في العام 2000 أثناء ممارسته منصب رئيس الطاقم الطبي في مستشفى الهلال الأحمر بدمشق، عمل مستشاراً لوزير الصحة السوري، ثم في العام 2004، أصبح مستشاراً لرئيس الوزراء محمد ناجي العطري. من 2005 حتى 2010، كان التقي مديراً لمركز الشرق للدراسات الدولية في دمشق الذي أسسته وكانت تموله وزارة الخارجية السورية. منذ عام 2010، شغل منصب المدير العام لمركز أورينت للأبحاث (ORC)، وهو مركز فكري يركز على الدراسات الاستراتيجية والسياسية في الخليج والشرق الأوسط ومقره دبي، الإمارات العربية المتحدة.
لا أستطيع شخصياً أن أفهم حرص الدكتور التقي على “تهميش” أهمية الخليج العربي، وبالتالي منطقتنا، وسوريا، في أولويات السياسات الاستراتيجية لواشنطن، إلا في مسعى لترويج غياب مسؤولية الولايات المتحدة المباشرة عن أحداث الصراع المصيرية في سوريا والمنطقة، طوال العقد الثاني، في مواجهة تحدي ثورات الربيع العربي، ويغطي واقع شراكة السيطرة الإقليمية بين الولايات المتحدة والنظام الإيراني، والتنسيق الكامل مع الروس، بطرح ليس له أساس موضوعي حول “توكيل” إيران وتركيا وغيرهما في إدارة شؤون المنطقة، وحول قفز الروس في مرحلة تراخي استراتيجي.
[3]– في نفس المحاضرة آنفة الذكر، “لماذا أوكرانيا هي “خَطيئة” الغرب ؟”، يؤكد البرفسور “ميرشايمر” أن الصين تملك أهم مقومات المنافس الاستراتيجي للولايات المتحدة، في امتلاكها لعدد سكان يزيد على عدد سكان الولايات المتحدة، وسعيها للتفوق عليها في امتلاك الثروة، على أساس أن عدد السكان، وكمية الثروة التي تمتلكها دولة ما هي التي تؤهلها للعب دور عالمي، متجاهلاً الأهمية القصوى لطبيعة النظام السياسي، وقدرته على تجيير تلك العوامل في خدمة بناء دولة عظمى.
[4]– ما بين مطلع آذار 1989 ومطلع أيار، 1993، اندلعت “ثورات برتقالية”، ديمقراطية، في وسط أوروبا وجنوبها، وشرقها، أدت إلى انتقال سلمي للسلطة إلى حكومات غير شيوعية، مؤيدة للولايات المتحدة؛ في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وألبانيا؛ وسلسلة من صراعات عنيفة، أدت إلى انتقال دموي للسلطة في رومانيا، وتفكيك يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا عبر حروب طاحنة. بدأت الاحداث في بولندا، 1989، وانتشرت إلى المجر وألمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا.
تم حل الاتحاد السوفييتي بحلول نهاية عام 1991م، نتج عنه ميلاد 14 دولة: (أرمينيا، أذربيجان، روسيا البيضاء، إستونيا، جورجيا، كازاخستان، لاتفيا، ليتوانيا، مولدوفا، طاجيكستان، تركمانستان، أوكرانيا، أوزباكستان وقيرغيزستان) أعلنت استقلالهم عن الاتحاد السوفييتي وقد خلفت روسيا الاتحادية مجموعة كبيرة منهم. تم تقسيم يوغوسلافيا إلى خمس دول أخرى بحلول عام 1992؛ سلوفينيا، كرواتيا، مقدونيا، البوسنة والهرسك وجمهورية يوغسلافيا المتحدة، التي انقسمت بعدها لدولتين، صربيا والجبل الأسود. ثم انقسمت صربيا أيضاً عندما انشقت عنها
“كوسوفو”.
تفككت تشيكوسلوفاكيا أيضاً بعد ثلاث سنوات من نهاية الحكم الشيوعي، وانقسمت سلمياً إلى جمهورية التشيك وسلوفاكيا.