الصراع الراهن على مناطق مسد، في السياق والأهداف والقوى
الجزء الأوّل:
في حيثيَّات المعركة الحالية من صراع النفوذ والسيطرة على مناطق سيطرة قسد؛ التي قد تكون الأخيرة؛ نقرأ ما أتى في تعقيب واضح الدلالة، بعد نهاية لقاء ساخن جمعه بنظيره الأمريكي، جو بايدن، في روما، 31 تشرين الأول 2011، حين اعتبر الرئيس التركي، السيّد أردوغان أنّ عملية دعم الولايات المتحدة للمسلحين الأكراد في سوريا لن تستمر على النحو الذي جرت به حتى الآن، وأنّ هذه العملية التي استمرت حتى الآن لن تتواصل على هذا النحو لاحقاً.
في ضوء ما أعلنه الرئيس التركي، يمكن تلمّس بعض أسباب الصراع السياسي التركي/الأمريكي، وقراءة ما يشير إلى استمرار الجهود الأمريكيّة المكثّفة، بالتنسيق مع شريكيها الرئيسيين، تركيا وروسيا، لإيجاد مخرج ما لحالة الفشل التي وصلت إليها الترتيبات الروسية/التركية لتنفيذ بنود أتفاق وقف إطلاق النار، وإعلان مبادئ تفاهمات شاملة حول إدلب وشمال شرق سوريا في 5/3/2020؛ التي حاولت في حينها وضع أسس تسوية سياسية دائمة، تنتزع فتيل الصراع المسلّح الذي أوشّك أن يتحوّل إلى حرب مفتوحة بين البلدين؛ علاوة على ملاحظة شعور الرئيس التركي بأنّه قد حصل على ضوء أخضر، لفتح معركة جديدة ضدّ قسد، بخلاف ما استنتجه خصومه من قراءة حيثيّات اللقاء، وما صدر عنه من تصريحات!!
في السياق العام للصراع، أعتقد أنّ الأسباب التي وضعت مصالح وسياسات روسيا وتركيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية، في حالة صدام متواصل، رغم عمق العلاقات والمصالح المتبادلة، وحرص القيادات على وجود تنسيق دائم، ترتبط بشكل وثيق بسياسات استراتيجية، روسيّة/أمريكيّة، تمحورت أهدافها التكتيكيّة حول إبقاء سلطة النظام، في مرحلة الخيار الأمني الأولى، خلال سنوات 2011-2014،[1] وحول إعادة تأهيله، في المرحلة الثانية، خلال سنوات 2015-2020.
لقد تجسّدت الخطط والسياسات المشتركة، الأمريكية الروسية، في الممارسة السياسية والعسكرية، بتكامل واضح للأدوار وتنسيق للجهود، على الصعيد الثنائي، والعام، المرتبط بتحالف واسع لقوى وأنظمة، تقاطعت مصالحها في تحقيق نفس الهدف!
إذا اقتصر التحليل على المرحلة الثانية من الحرب، بعد التدخّل العسكري المباشر، الأمريكي والروسي(2014-2015)، يبدو التنسيق، وتكامل الأدوار الأمريكية الروسية واضحاً، لإزالة العقبات التي تركتها حروب المرحلة الأولى من أمام إعادة تأهيل سلطة النظام.
في حين تكفّلت الولايات المتحدة بمهمّة تحييد داعش، التي أصبحت تسيطر؛ بفضل تسهيلات متعددة الأشكال، قدّمها الجميع في إطار انجاح الخيار العسكري الميليشياوي الطائفي؛ على أكثر من ثلثي مساحة البلاد، باستخدام تحالف دولي واسع، شكّلت رأس حربته قسد، (الذراع الأمني/العسكري للنظام السوري، الذي ولد، وتمدد، بالتنسيق مع قيادات حزب العمال الكردستاني التركي، في إطار تكتيك عسكرة حراك السوريين السلمي في ربيع، 2011، أخذت روسيا على عاتقها مهمّة إخضاع الوجود المسلّح لفصائل ومجموعات المعارضة المسلّحة، بالاعتماد على الميليشيات الإيرانيّة، وفائض قوّة سلاحها الجوّي، في ظروف موازين قوى عسكرية غير متكافئة!
رغم كلّ هذا التحشيد العسكري/اللوجستي، لم تسر رياح الحرب الأمريكية/الروسية، كما اشتهت دفتي القيادة في واشنطن وموسكو، يفسّره، في تقديري، ليس فقط عدم عدالة الحرب، من وجهة نظر مصالح الشعب السوري، بل، أيضاً فشل مزدوج في التعامل مع العقبة الأساسيّة التي واجهت استراتيجيتها، على الصعيد الإقليمي، برزت بتناقض واضح بين طبيعة أدواتها، قسد والميليشيات الإيرانيّة، مع مصالح أقوى دولتين في المحيط الجيوسياسي السوري، تركيا وإسرائيل، وتفاقمت، بتناقض، وازدواجيه، سياسات التعامل معهما.
في حين عملت السياسات المشتركة للولايات المتحدة وروسيا على مواجهة هواجس تل أبيب بأسلوب الجزرة، لم يخلُ نهج مواجهة هواجس انقرة من التشكيك، وممارسة شتّى أشكال الضغوط، دون الأخذ بعين الاعتبار ما تركته مرحلة حروب أذرع الثورة المضادة الميليشياوية الأولى من عواقب على الأمن القومي التركي، وجدّية القيادة التركية في مواجهتها؛ التي شكّل أخطرها، وجود ملايين اللاجئين، وقيام كانتون كردي معاد، مقاتل، وتمدده على تخومها الجنوبيّة، بدعم مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، ودعم لوجستي روسي!
ضمن هذا السياق، كان من الطبيعي أنّ يصطدم الجهد الحربي والسياسي الروسي المتواصل منذ أيلول 2015، في إطار تفاهمات شاملة مع واشنطن، بإرادة المواجهة التركيّة، التي بلغت ذروتها في حادث إسقاط السوخوي 24 الروسية، في 24 تشرين الثاني بعد أقلّ من شهرين على التّدخل الروسي، والتي لم تضعفها محاولة الانقلاب الفاشلة 2016، وسلسلة متواصلة من الصدامات والمعارك والتحشّدات العسكرية، ولم تحقق تطلّعاتها بالوصول إلى صفقة سياسيّة شاملة عشرات اللقاءات في إطار الدول الضامنة!
بالتأكيد، ليس خارج هذا السياق التاريخي يأتي ما يحدث اليوم من صراع في المناطق المتنازع عليها بين الأتراك وبين شركائهم الأمريكان والروس، استكمالا لخطوات إعادة تأهيل النظام[2]، واستمرارا لضغوط متعددة الأشكال، يمارسها الأمريكان والروس، في مواجهة شروط صفقة التسوية التركيّة، تفكيك سلطة قسد هو الثمن المطلوب تركيّا، مع بعض الضمانات الأمنية التي يوفرها شريط اديموغرافي، على امتداد تخومها الجنوبية، مقابل عدم الوقوف في وجه تقدّم بلدوزر التأهيل الروسي /الأمريكي!
في مواجهة الشروط التركيّة، وفي محاولات لتحجيم أهدافها، وتفريغها من مضمونها، تارة، وبالتوافق معها، والتصافق على حساب السوريين، معظم الأحيان، مع الأتراك وغيرهم من قوى الثورة المضادة، أدار الروس، بغطاء سياسي أمريكي، حلقات حروب إزاحة فصائل المعارضة المسلحة، عبر سلسلة من الحروب، ودرجات متفاوتة من الحصار، وأشكال مختلفة من المصالحات المذلّة، وما رافقها ونتج عنها من تهجير وتدمير، وإعادة فرز، وتموضع لمجاهدي الثورة المضادة، التي كانت قد وجدت، بتواطؤ روسي، في مناطق الحماية التركية بعض الأمان، ووجدت فيها تركيا الورقة الرابحة لخوض معاركها، وكان ما حدث في درعا، خلال الصيف الماضي، أحدث مشاهدها الدامية؛ بموازاة ما يحدث في السويداء من ترتيبات، لنفس الهدف؛ إعادة السيطرة شبه الكاملة على مناطق الجنوب!
يُتبع…
[1]– حين عملت أطراف تحالف معاد للديمقراطية، بجهد مشترك، متكامل، وبأذرع الثورة المضادة الميليشياويّة، على هزيمة الحراك الشعبي السلمي، وتفشيل جهود حلّ سياسي قابل للاستمرار، وإجهاض أهداف التغيير الديمقراطي.
قد يتجاهل بعضهم – لأسبابه الخاصّة – أنّ التوافق الاستراتيجي الروسي/الأمريكي حول مصير سلطة النظام قد ظهر مبكّراً، مع وصول الحراك الشعبي السلمي إلى مرحلة اللاعودة خلال صيف 2011، واضعاً تحالف القوى المعادية للتغيير الديمقراطي، بقيادة واشنطن وموسكو، أمام خيارين، لا ثالث لهما: القبول بتحوّل سياسي، على الطريقتين التونسيّة، والمصريّة، وما قد يؤدّي إليه، في ظروف المدّ الثوري الديمقراطي، من تحوّلات استراتيجية تخرج عن إطار مصالح الجميع، المعادية في الجوهر، والرافضة لمسارات التغيير الديمقراطي للشعب السوري؛ أو اللجوء الى الخيار الأمني/العسكري، لسحق تطلّعات الشعب السوري، وهزيمة قواه ونخبه الديمقراطية.
تجسّدت المصالح والإرادة المشتركة للولايات المتحدّة الأمريكية وروسيا في قطع سبل الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي، وفي تعزيز جهود دفع الصراع السياسي إلى مسارات العنف، ليس فقط بدعم، وغضّ النظر عن، سياسيات السلطة، وشريكها الإيراني، لمواجهة الحراك الشعبي بجميع وسائل العنف المتاحة، بل أيضاً بتكامل سياسات القوتين الأعظم في تفشيل جهود إطلاق حلّ سياسي للصراع، طوال عام 2011، (التي كان أبرزها، وكان لها أن تقطع مسار الخيار العسكري، لولا تعارضها مع إرادة عالميّة، عليا)، جهود داخلية سوريّة؛ داخل النظام وعلى صعيد النشطاء والنخب الديمقراطية الوطنية؛ وجهد إقليمي، عربي/تركي، مثّلته مبادرة الجامعة العربية وخطّتها الثانية للسلام، التي أسقطها في مجلس الأمن، فيتو روسي /صيني، في 4 شباط 2012، طبعاً، بضوء أخضر أمريكي، ليعمل الأمريكان والروس على استبدالها بمسرحية جنيف، وما تفتقد إليه من آليات وإرادة ايجاد حل سياسي، بديلاً للحل العسكري، وليس مواز له!!
[2]– وهي صيرورة متواصلة، كانت قد بدأت مع التدخّل العسكري المباشر، الأمريكي والروسي، 2014-2015، وقد سعى العاملون عليها إلى إعادة سيطرة السلطة على كامل الجغرافيا التي خرجت عنها، في أعقاب مرحلة حروب الخيار العسكري الميليشياوية!