fbpx

الصراعات الداخلية في الإدارة الأمريكية وانعكاسها على الشرق الأوسط

0 135

مقدمة:

لم يقع المشرعون الأمريكيون الذين كتبوا دستور الولايات المتحدة الأمريكية في شرك احتمال استئثار السلطة من قبل أحد فروعها الثلاثة الرئيسية/السلطة التشريعية – السلطة التنفيذية – السلطة القضائية/فالحكومة في الولايات المتحدة الأمريكية تتألف من مجموعة من المؤسسات والكونجرس والمحكمة العليا الدستورية والهيئات والوكالات[1]. فالسلطة التنفيذية هي مجموعة من الوزارات والمؤسسات التي تمارس وظائفها وفق توجهات السلطة المنتخبة “الرئيس ونائبه” وعلى أساس ما يتيح الدستور لها، فهذه السلطة ليست مطلقة الصلاحيات وخصوصاً في القضايا الكبرى التي تتعلق بالأمن القومي للبلاد فهي مسؤولة أمام الكونغرس بمجلسيه (النواب+الشيوخ) والكونغرس هو من يوافق على خطط الحكومة المالية والتجارية والحربية والتعيينات في وظائف المفاصل الرئيسية لمؤسسات الدولة ووكالاتها، وكلا السلطتين/التنفيذية والتشريعية/لا تستطيعان التدخل في شؤون القضاء، فالمؤسسة القضائية مؤسسة مستقلة تمارس سلطتها بموجب تفويض الدستور لها. ويعكس واقع السلطات الثلاث الرئيسية حقيقة الوضع السياسي العام في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تنوس ما بين سياسات الحزبين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي). هذه المعادلة الدستورية هي من يمنع اختطاف قرار الحكم لمصلحة فئة صغيرة، فإذا كان في البيت الأبيض رئيس جمهوري فليس بالضرورة أن يكون الحزب الجمهوري هو من يسيطر على مجلسي الكونغرس وبالتالي فصناعة القرار الأمريكي لا تخضع لإرادة فرد أو مجموعة صغيرة من الشاغلين لمناصب في مفاصل الدولة بل أن هذا القرار سيمرّ بالضرورة أمام ممثلي الأمريكيين (دافعو الضرائب) وهم من يسمح بمروره أو رفضه لذلك يمكن تسمية الكونغرس بأنه الصانع الفعلي للسياسات الوطنية الأمريكية.

وفق هذه الآلية يمكن فهم الصراعات الداخلية في الإدارة الأمريكية الحالية، ويمكن تبيّنُ كيفية تشكل هرم السلطة في الولايات المتحدة بما يتناسب وتنفيذ البرامج الانتخابية التي انتخب الأمريكيون قادتهم على أساسها، وكيفية انعكاس الصراعات المحتملة أو القائمة داخل بيت الحكم الأمريكي على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط.

أجهزة الحكم السيادية في الولايات المتحدة:

أتت إدارة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض الأمريكي مع تهمٍ بتدخلٍ روسيٍ بمجريات الانتخابات الأمريكية وهذه التهم انتقلت إلى مستوى التحقيقات حيث شهدت الأزمة “تشكيل لجنة تحقيق خاصة في واشنطن من قبل الكونغرس الأمريكي برئاسة روبرت مولر، والتي ساقت العديد من التقارير على تورط العديد من مستشاري ترامب في اتصالات مع روسيا سواءً من فريقه الانتخابي أو ممن جاء في فريقه الاستشاري[2] وباعتبار أن السلطة التنفيذية هي سلطة يحقُّ للكونغرس دعوتها للسؤال عن إجراءات تطلّب القيام بها أو قامت بها، فإن إدارة ترامب وجدت نفسها مع وصولها إلى البيت الأبيض في أول ورطة حيث اضطر ترامب إلى عزل “مايكل فلين” المعين كمستشار للأمن القومي الأمريكي بعد مثوله أمام لجنة التحقيق، وفي تصريح له قال سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا الاتحادية لصحيفة الشرق الأوسط الصادرة بلندن “إن هناك أملاً بإخراج التعاون من المأزق المفتعل الحالي، لكن مستقبل العلاقات يتوقف ليس فقط علينا بل على الجانب الأمريكي أيضاً، وأن تدهور العلاقات الروسية الأمريكية هو نتيجة مباشرة لسياسات إدارة باراك أوباما التي دمرت أسس التعاون وقبل رحيلها وضعت قنابل موقوتة فيها من أجل تعقيد حياة من سيخلفها، وقال لافروف: يتكون انطباع بأنّ بعضهم في واشنطن لا يريدون الموافقة على تعبير إرادة الأمريكيين ويحاولون إلقاء اللوم على عاتقنا بسبب إخفاقاتهم ويستخدمون الورقة الروسية في الصراع السياسي بلا خجل”[3].

هذا الصراع السياسي بين الكونغرس الأمريكي والبيت الأبيض يعكس صراع المؤسسات الأمريكية الحاكمة ويبيّن قوة سلطات الكونغرس التي يمنحها الدستور، سلطة فرض الضرائب والرسوم والعوائد والمكوس وجبايتها لدفع الديون وتوفير سبل الدفاع المشترك، إضافةً إلى أنه السلطة المسؤولة عن استدانة الأموال وتنظيم التجارة بين الولايات ومع الدول الأجنبية وغيرها من المهام[4]. وعادة يكون الكونغرس بمجلسيه انعكاساً لإرادة الناخب الأمريكي في تقرير السياسات الكبرى للدولة الأمريكية.

إن وصول ترامب إلى سدّة الحكم في البيت الأبيض استند إلى وعود انتخابية طرحها ترامب وفريقه الانتخابي “تمثلت برغبة إدارة ترامب بإلغاء الاتفاقيات مع دول المحيط الهادئ واتفاقية (نافتا) للتجارة بين دول شمال القارة الأمريكية/كندا – الولايات المتحدة الأمريكية – المكسيك/إضافة إلى اعتزامه خفض الضرائب على الشركات والقيام بإجراءات الحماية الأمريكية من خلال فرض ضرائب عقابية على الشركات الأمريكية والأجنبية حتى تُتنج داخل أمريكا وتوفر فرص عمل”[5].

هذه الخطوات إضافة إلى اعلان ترامب بنفسه عن إصراره على إلغاء الاتفاق الموقع مع إيران بشأن برنامجها النووي والذي تمّ توقيعه من خلال اتفاق “5+1” الموقع مع إيران. فترامب يرى في هذا الاتفاق تهديداً للأمن القومي الأمريكي لإنه لا يحقق رقابة تامة على برنامجها النووي مما يجعلها تقترب من تصنيع وامتلاك القنبلة النووية، كذلك يرى ترامب أن “لإيران دوراً كبيراً في صناعة الفوضى وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط والمطلوب إعادة إيران إلى ما وراء حدودها”[6].

هذه الاجراءات لابدّ أن تصطدم مع مصالح سياسية واقتصادية داخل البيت الأمريكي مما يجعل من تنفيذها أمراً ليس سهلاً ويحتاج بالضرورة إلى فريق عمل متماسك يتوحد حول رؤية شاملة لإدارة الملفات الداخلية والخارجية على صُعد الاقتصاد والتجارة ومسائل الأمن القومي.

 على هذه القاعدة يمكن قراءة وفهم عزل وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيلرسون وعزل مكماستر مستشار الأمن القومي الأمريكي، إضافة إلى تعيين رئيس جديد لوكالة المخابرات الأمريكية CIA، فهذه الخطوات أتت بشخصيات متماهية مع رؤية ترامب لإدارة الملفات الكبرى وتحديداً ما يتعلق منها بسياسة واشنطن حيال روسيا والصين وحيال الموقف من البرنامج النووي لكوريا الشمالية إضافة إلى رؤية ترامب لضرورة إعادة إيران إلى حجمها الطبيعي وإخراجها من الإقليم.

لقد كان وجود ريكس تيلرسون وهو صديق مقرّب للرئيس فلاديمير وتين في سدّة الخارجية الأمريكية أمراً معوّقاً لتنفيذ سياسات أكثر صرامة تجاه موسكو التي ضمّت شبه جزيرة القرم إليها عام 2014 بعد اقتطاعها بالقوة العسكرية من أوكرانيا. فريكس تيلرسون هو مدير سابق لشركة ايكسون موبيل للنفط ولديه علاقة وثيقة مع الرئيس الروسي الذي منحه وسام الصداقة عام 2013، كذلك فإن تيلرسون رفض وصف بوتين بأنه مجرم حرب، إذ أنه سبق وعقد صفقات مع شركة “روسنفت” الروسية بمليارات الدولارات. وليس مجهولاً أن تيلرسون صديق حميم لـ “إيغور سيتشين” رئيس شركة روسنفت. وهذا ما يفسر رفض تيلرسون فرض عقوبات على روسيا بسبب ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، إذ قدمت شركة اكسون برئاسته تقريراً تقول فيه: “إن العقوبات المفروضة من قبل الحكومة الأمريكية والاتحاد الأوربي على روسيا كلّفتها مليار دولار”[7].

ويمكن فهم طبيعة الاختلافات داخل الحزب الجمهوري أو الديمقراطي في تقرير السياسات وفقاً للتيار المهيمن على السلطة في البيت الأبيض وقربه أو بعده عن مجموعات الضغط الداخلية فترامب أقرب إلى الصقور ومجموعة حزب الشاي منه إلى ممثلي شركات النفط وهذا ما دفعه إلى تعيين جون بولتون في منصب مستشار للأمن القومي الأمريكي والمجيْ ب مايك بومبيو وزيراً للخارجية وهو من الصقور، وكذلك تعيين جينا هاسبل في منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية CIA.

صراعات يديرها ترامب لتثبيت موقعه:

أقام ترامب برنامجه الانتخابي على إعادة الاعتبار لقوة الولايات المتحدة الأمريكية والتي تراجع نفوذها الدولي في فترة حكم باراك أوباما كما يقول ترامب. وإعادة الاعتبار لهذا النفوذ يستند إلى ضرورة مراجعة كل الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمها سلفه وكذلك مراجعة السياسات التي انتهجها أوباما بشأن نفوذ الولايات المتحدة وتحديداً في أفغانستان والعراق ومواجهة المشروع النووي الكوري الشمالي والبرنامج النووي الإيراني وكذلك حول موقف النأي بالنفس حيال مسألة الصراع في سورية والذي أدى إلى تخلٍ أوسع لكلٍ من إيران وروسيا لمصلحة النظام السوري وظهور الحركات الأصولية المتشددة في هذا الصراع باعتبارها قوى إرهابية عابرة تهدّد مصالح الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً. لذلك وجدت إدارة ترامب خللاً في البناء الإداري تمثّل بوجود اختلافات في رسم سياسة موحدة حيال إدارة هذه الملفات، فالإدارة الأمريكية أجرت مراجعات بخصوص الدور الإيراني في إقليم الشرق الأوسط ورأت أن هذا الدور يهدّد على المديين المتوسط والبعيد النفوذ الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة حيث سيصل الإيرانيون إلى شواطئ المتوسط ويكون لهم حضور عسكري مهدّد، وكذلك سيعمل البرنامج النووي الإيراني بشقيه المدني والعسكري على زيادة قوة ونفوذ إيران مما يجعل منها قوةً منافسةً ومهدّدةً للوجود الأمريكي في كامل منطقة الشرق الأوسط. وقد كتب ريتشارد هاس وهو دبلوماسي أمريكي سابق على تويتر: “دونالد ترامب مصمّم الآن على شنّ حروب على ثلاث جبهات في وقت واحد 1- سياسية ضد المدعي العام الخاص روبرت مولر. 2- اقتصادية ضد الصين وشركاء تجاريين آخرين. 3- وحرب حقيقية ضد إيران أو كوريا الشمالية وهذه هي أخطر لحظة في التاريخ الأمريكي الحديث”[8].

هذه فعلياً هي ملامح السياسة التي يعمل ترامب وطاقمه المعاون على تنفيذها، وهو أمر يحتاج إلى الإنسان وإلى صلابة الموقف وهذا ما يدفع إلى فهم لماذا استعان ترامب بتعيين مايك بومبيو وجون بولتون وجينا هاسبل بدلاً من ريكس تيلرسون ومكماستر. فترامب الذاهب إلى مواجهات ساخنة مع إيران في الشرق الأوسط ومع انهاك الروس عبر العقوبات الاقتصادية والإعداد لحربٍ تجارية حقيقية مع الصين يحتاج بالضرورة إلى طاقم عمل منسجم مع توجهاته وأهدافه وهي بالأساس أهداف جناح الصقور في الحزب الجمهوري والذي يعتقد بضرورة استخدام القوة العسكرية وشن الحروب من أجل تثبيت مصالح الولايات المتحدة وشركاتها العالمية.

ويمكن ببساطة اعتبار اختيار جينا هاسبل على رأس وكالة CIA هو تعميق لدور هذه الوكالة في القيام بمهام سرية خصوصاً وأن هاسبل شغلت منصب مدير الخدمة السرية الوطنية في هذه الوكالة، لذلك واجه قرار تعيين هاسبل معارضةً من عدد من المشرعين الأمريكيين ومن جماعات حقوقية على اعتبار أن هذه المرأة أدارت سجناً سرياً للوكالة في تايلند عام 2002 ولعبت دوراً في برنامج التسليم الاستثنائي “تسليم المسلحين السري إلى الحكومات الأجنبية واحتجازهم في مرافق سرية”[9].

أما اختيار مايك بومبيو وزيراً للخارجية فقد أتى على قاعدة معاداته للاتفاق النووي الإيراني واعتباره أن الصين تشكل تهديداً أكبر من روسيا بسبب تجسسها ضد البلدان الأخرى. فقد قال بومبيو: “الصين سعت مؤخراً لسرقة معلومات تتعلق بأنشطة الولايات المتحدة التجارية ومعلومات تتعلق بسبر الرأي العام الأمريكي عن طريق هجمات الكترونية”[10]. ويقول بومبيو: “إن غيران أكبر داعمٍ للإرهاب في العالم وأنها تقوم بدور معرقل في الشرق الأوسط يغذي التوترات مع الدول الحليفة للولايات المتحدة”[11].

ولا يقيم بومبيو وزناً كبيراً لتهديدات الرئيس الروسي بوتين حول امتلاك موسكو أسلحة نووية جديدة بعضها ذو نطاق غير محدود، إذ قال بومبيو: “إننا نتابع كل هذا عن كثبٍ وأن لدينا فهماً جيداً للبرنامج الروسي ونضمن أن يظلّ الأمريكيون في مأمن من تهديدات فلاديمير بوتين”[12]. ويعتقد بومبيو أن مصالح واشنطن وموسكو هي مصالح متباينة في سوريا، وهما ليستا حليفتين هناك معتبراً أن روسيا تسعى إلى البقاء في الساحة السورية[13].

أما اختيار جون بولتون كمستشار جديد للأمن القومي الأمريكي فقد أتى على ذات الهدف بوحدة قرار الإدارة الأمريكية حيال الصراع الذي تنوي إدارته بشأن الملفات الكبرى. ويُعتبر جون بولتون من صقور الحزب الجمهوري المتشددين، فهو عمل مع جورج بوش الابن من عام 2001-2009. ودعم قرار غزو العراق ويدعو إلى استخدام القوة العسكرية ضد كوريا الشمالية وإيران وهو صاحب المقولة الشهيرة التي تقول: “القصف هو السبيل الوحيد لإيقاف البرنامج النووي الإيراني”. وتبنى بولتون مواقف متشددة ضد روسيا[14].

إن هذا الطاقم الجديد الذي اختاره دونالد ترامب لم يأت فقط لإدارة الملفات الكبرى وإنما أيضاً لخلق وحدة في اتخاذ القرار الأمريكي مما يمنع عن هذا القرار سمة الضعف والتردد، ويمنحه سمة القوة والحزم وهو ما تحتاجه رؤية ترامب لفرض الرؤية الأمريكية على الصراعات العالمية وإدارتها بما يخدم المصالح العليا للولايات المتحدة وحلفائها الدوليين.

الدور الروسي في الصراع الأمريكي:

لعب التدخل الروسي في مجريات الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي حملت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وأبعدت منافسته هيلاري كلينتون عنه. هذا التدخل أتى عبر التأثير على الرأي العام الأمريكي من خلال 36 ألف حساب وهمي على شبكات التواصل في الولايات المتحدة، وهذا ما جعل من مراكز صناعة القرار الأمريكي في حالة غضب واستنكار لهذا التدخل ومحاولة معرفة ركائزه وتحديداً ضمن الفريق الانتخابي أو الاستشاري لترامب. لقد كشفت التحقيقات تورط “مايكل فلين” في التخابر مع السفير الروسي اضافة إلى اشخاص آخرين مثل جورج بابادو بولوس مستشار السياسة الخارجية وجاريد كوشنر صهر ترامب وجونيور ترامب ابن دونالد ترامب وكذلك مدير حملة ترامب الانتخابية “بول مانافورت”.

التدخل الروسي غايته الرئيسية إقامة جسور فعالة مع إدارة ترامب بعد وصولها إلى البيت البيض من خلال معاونيه وفريقه الانتخابي ومستشاريه، فالروس يريدون إعادة انتاج للعلاقات الروسية الأمريكية التي تضررت كثيراً في عهد باراك أوباما. هم بهذا التدخل يقتربون كثيراً من التأثير على اتجاهات سياسة ترامب، لكن هذا الدور الروسي لم يقطف الثمار التي توخى قطفها، بل أتى بنتائج عكسية أدت إلى توترات كبرى في العلاقات بينهم وبين الولايات المتحدة. وتعيش واشنطن وموسكو أكثر فترات توتر علاقات بين البلدين منذ الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي السابق في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويبقى الترقب موجوداً بما يخص نتائج التحقيقات التي يقودها روبرت مولر والتي إذا ما ثبت تورط دونالد ترامب فيها فإنها ستؤدي إلى إخراجه من البيت الأبيض وهي حالة لم يسبق أن حصلت نتيجة تورط دولة أجنبية في اللعب بمجريات السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية.

على هذا المستوى ينبغي توقع إجراءات أكثر صرامة نحو الروس في ساحات الصراع معهم سواءً في سورية أم في أوكرانيا، وكذلك في أمور الطاقة والدرع الصاروخية. إن ذهاب ترامب إلى مزيد من مربعات التشدد السياسي والاقتصادي وحتى العسكري اتجاه موسكو قد يشكل حالة تثبيت لوضع إدارته في خضم هذه الصراعات غير المسبوقة، وأن اختياره لطاقم الصقور الجمهوريين الجديد هو مؤشر إلى هذا الاتجاه ومؤشر إلى تغيرات عميقة في بنية السياسة الأمريكية حيال الملفات الأكثر خطورة على الأمن القومي الأمريكي كملف إيران ونفوذها في الشرق الأوسط والملف النووي الكوري الشمالي، إضافة إلى اتخاذ خطوات تصعيدية ضد موسكو في سورية وربما في مواقع أخرى.

التأثيرات المحتملة للصراع الداخلي الأمريكي:

قبل الذهاب إلى قراءة التأثيرات المحتملة للصراع الداخلي الأمريكي على دول الشرق الأوسط ينبغي التأكيد أن حدة التجاذب السياسي الداخلي في الإدارة الأمريكية سيدفع بعجلة التشدد الأمريكي حيال الملفات الساخنة فالوضع في سورية هو أحد نتائج التردد الأمريكي في عهد إدارة أوباما والتي سمح ترددها بانخراط إيراني مباشر في الصراع العسكري وكذلك بانخراط روسي مباشر. لذلك لم تعد ساحة الصراع السورية هي ساحة صراع داخلي بالقدر الذي أصبحت فيه ساحة صراع دولي، فإدارة ترامب ودرءاً للرأي القائل بتعاملها مع الروس ستُضطر إلى ممارسة الضغط العسكري والسياسي بحق التكتل الإقليمي الحاصل برعاية روسية، فالأمريكيون معنيون بتفكيك هذا التحالف المؤقت الذي نشأ بين روسيا وإيران وتركيا رغم التناقضات بينهم بما يخص الموقف من النظام السوري ومستقبل الحل السياسي لسورية ومسائل أخرى ذات طبيعة استراتيجية. لقد اكتشف الأمريكيون أن استعجالهم بوضع عراقيل أمام النهضة الاقتصادية التركية من خلال تشجيعهم لانقلاب 15 تموز سبّب لهم إرباكاً جديداً. فالأمريكيون بنوا تدخلهم في الصراع السوري من خلال الاعتماد على طرف منبوذ إقليمياً وداخلياً، فهم اعتمدوا على حزب PYD في صراعهم مع داعش ولم يعتمدوا على حليفهم التاريخي الأتراك رغم أن مصلحة تركيا تقتضي بجعل الإقليم خالياً من التوترات والحروب مما يساعد في النهضة الاقتصادية التركية. لم يجر الأمريكيون مقارنة دقيقة بين احتواء التطور الاقتصادي التركي واعتباره حلقة من حلقات القوة لحلف شمال الأطلسي بل اعتبروه قوة مهدّدة وهذا ما دفعهم إلى وضع العراقيل أمام هذا التطور من خلال دعم قوىً معادية للدولة التركية، ويبدو أن الأمريكيين تناسوا أنهم صنفوا حزب العمال الكردستاني PKK بأنه تنظيم إرهابي وتغافوا عن قصد عن العلاقة بين PYD وPKK والتي ظهرت علانية عبر نشر صورة اوجلان الكردي من أصول تركية في ساحة الرقة الرئيسية بعد طرد داعش منها.

يمكن للأمريكيين أن يتعاملوا مع التحالف المؤقت بصورة براغماتية، فلتفكيك هذا التحالف لا تكفي الوعود والتصريحات لفكه على الأقل من الطرف التركي، فهناك استحقاقات على الولايات المتحدة أن تقدمها لحليفها التركي، من هذه الاستحقاقات وقف دعم PYD بالسلاح وإبعاده إلى ما وراء شرق الفرات وتصحيح العلاقات التركية الأمريكية سواءً ما يتعلق منها بإجراءات اقتصادية أو سياسية ومنها ملف الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف خلف المحاولة الانقلابية التي حدثت في تموز 2016. إذا لم يفعل الأمريكيون ذلك فهم سيزيدون عملياً من تصلب التحالف المؤقت وهذا أمر سيعقد مهمتهم في الشرق الأوسط وفي الصراعات الدولية الاستراتيجية، فكيف يمكن أن يتجنب الأمريكيون أخطاء في سياساتهم في المنطقة

السيناريو الأول:

إذا اعتبر الأمريكيون أن صراعهم هو مع محور روسي صيني إيراني فهذا يرتب عليهم أن يعيدوا الاعتبار للتعاون مع تركيا ومع القوى المناهضة للمشروع الإيراني في سورية والذي قد يصبح ذات يوم حلقة من حلقات طرد النفوذ الأمريكي بحثاً عن عالم متعدد الأقطاب. ويتطلب هذا السيناريو من الأمريكيين إجراءات عسكرية ملموسة ضد النظام السوري وحلفائه في الساحة السورية واللبنانية وبالتالي كسر مشروع الهلال الشيعي الذي تقاتل إيران وحلفاؤها لتحقيقه انطلاقاً من طهران مروراً ببغداد ودمشق ثم الوصول إلى البحر البيض المتوسط، والمقصود بالإجراءات العسكرية الملموسة هو ضرب وسحق قدرات النظام السوري وحلفائهم ومنعهم من بسط سيطرتهم بمساعدة الروس على مناطق المعارضة السورية، وإجبار النظام تحت وقع الضربات العسكرية بالذهاب إلى جنيف لتحقيق تنفيذ القرار الدولي 2254 تحت طائلة التهديد بمحاسبة النظام على انتهاكاته باستخدام السلاح الكيماوي وعمليات الإبادة والتهجير والقتل والتدمير.

السيناريو الثاني:

إذا كان الأمريكيون جادون في إخراج الإيرانيين من الساحتين السورية واللبنانية ثم العراقية واليمنية فعليهم اعتماد سياسة جديدة حيال قوى فاعلة في المنطقة وهي الدولة التركية، وهذا يتطلب إجراءات ثقةٍ مادية وملموسة مع الأتراك تسمح بتطوير علاقات التعاون بينهما من جهة وبين دول الإقليم المتضررة من النفوذ الإيراني والروسي، فلا يمكن قبول إملاءات سياسات محددة على الطرف التركي بل استبدال ذلك بإجراءات ثقة اقتصادية وسياسية وعسكرية وهذا يسمح بتعاون عسكري تركي أمريكي ومساندة الجيش الحر لتعديل ميزان القوى في ساحة الصراع السورية بما يخدم الانتقال السياسي الحقيقي للسلطة في هذا البلد الذي انهكته الحرب.

السيناريو الثالث:

إذا اعتمد الأمريكيون سياسات استراتيجية للحفاظ على مصالحهم في إقليم الشرق الوسط فهذا يتطلب حلّاً حقيقياً لمسائل الصراع في المنطقة وأولها مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال قيام دولة فلسطينية على أراضي عام 1976 والاعتراف بأن القدس هي مدينو مقدسة لكل الديانات ولا يمكن أن تكون عاصمة للدولة العبرية. وكذلك يتطلب حلّاً حقيقياً لاجتثاث النظام الإيراني وذهنيته الطائفية المهددة لاستقرار المنطقة. ويتطلب اضعاف حزب الله عبر ضرب مرتكزاته وكذلك فك الارتباط عراقياً بين الدولة العراقية والهيمنة الإيرانية عليها عبر تذويب مرتكزاتها السياسية والميليشاوية.

الأمريكيون معنيون بتشكيل تحالف حقيقي بينهم وبين حلفائهم في المنطقة بعيداً عن الحسابات الضيقة لبعض مجموعات الضغط في الإدارة الأميركية فهل يحدث ذلك في الفترة القادمة مع تشكيل الطاقم الجديد في الإدارة الأمريكية؟ لا تزال الأمور رهن التشكل فلننتظر قليلاً.

المراجع:


[1]– Mawdoo3.com ماهو نظام الحكم في الولايات المتحدة.

[2]– اليوم السابع 19/1/2018، ترامب بطل أزمات واشنطن.

[3]– موقع سبوتنيك الروسي عربي 20/1/2017 الشرق الأوسط – تصريحات لافروف.

[4]– مكتبة حقوق الإنسان – دستور الولايات المتحدة الأمريكية.

[5]– موقع m.dw.com وعود ترامب الانتخابية ومدى واقعيتها.

[6]– Noonpost.org 22/11/2016 أحمد التلاوي.

[7]– BBC عربي 13/3/2018.

[8]– موقع a rabic.rt.com 25/3/2018.

[9]– BBC عربي 13/3/2018 جينا هاسبل ضابطة استخبارات أمريكية.

[10]– اليوم السابع 17/3/2018 5 أسباب وراء تعيين مايك بومبيو وزيراً للخارجية الأمريكية.

[11]– المصدر السابق نفسه.

[12]– المصدر السابق نفسه.

[13]– المصدر السابق نفسه.

[14]– العالم نت 23/3/2018 جون بولتون المستشار الجديد للأمن القومي الأمريكي.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني