fbpx

الشمال السوري المحرّر.. حوكمته السياسية بين الضرورة والممكن

0 191

يكثر الحديث هذه الأيام عن ضرورة توفير الاستقرار في مناطق الشمال السوري المحرّر، هذه الضرورة، تدفع إليها حالة الخلل الأمني والسياسي والاقتصادي التي تعيشها هذه المناطق، وبالتالي، لا يمكن إطلاق صفة استقرارٍ عليها دون وجود هيكلية حوكمة سياسية حقيقية عليها، تدير شؤونها، بموجب قوانين واضحة.

الهيكلية هنا مؤقتة ريثما تحين مرحلة الانتقال السياسي في سورية، ورغم أنها مؤقتة، فهي يمكنها توفير أسس استقرار وتطور الشمال السوري، وتحصينه ضدّ أي محاولات عدوانية، ويمكنها أن تمثّل أنموذجاً لسورية ما بعد نظام الاستبداد الأسدي.

هيكلية الحوكمة المؤقتة مضطرة للتعبير عن وظائفها التي تجعلها مقبولة من الجميع، وبما أن الائتلاف الوطني يمثّل قوى سياسية وعسكرية ومجتمعية واسعة، فهو يستطيع عبر هذه القوى أن يجعل من هيئته العامة برلماناً مصغراً مؤقتاً، ومن هيئته السياسية المنتخبة من مجموع أعضاء هيئته العامة قيادة سياسية ليست تمثل إيديولوجيا بذاتها، أو تياراً سياسياً، أو فئة حزبية محددة، وأن ينبثق عن الائتلاف حكومة مؤقتة تدير شؤون المناطق المحررة بالخدمات العامة والمشاريع الاقتصادية وحفظ الأمن وسيادة القانون.

إن وجود حوكمة سياسية قادرة على قيادة الشمال السوري يحتاج بالضرورة إلى توفر عاملين رئيسيين يحتاجهما استقرارها، العامل الأول، أن تكون مهام الأمن الداخلي من اختصاص وزارة داخلية تعمل وفق قوانين تحترم حقوق الإنسان وتبسط سلطتها على كامل المناطق المذكورة. والعامل الثاني، أن يكون هناك جهاز قضائي مستقل في أحكامه وقراراته، دون أي تدخل من أي قوة أمرٍ واقع، أو من الحكومة المؤقتة، أو القيادة السياسية.

إن توفر الشرطين اللازمين للاستقرار (الأمن الداخلي والقضاء المستقل)، سيجعلان أمر تطوير هذه المناطق اقتصادياً بكل الفروع (الصناعي والزراعي والخدمي والمالي والسياحي) أمراً ممكناً، وهو مقدمة لتشكيل نموذج حضاري سوري قابل للتعميم في باقي المناطق السورية.

إن هذين الشرطين يجب أن يكونا جزءً من رؤية متكاملة لدى الحوكمة السياسية (الائتلاف الوطني في هذه المرحلة)، وهذا يتطلب خلق تفاعل واسع مع البنى الاجتماعية في المحرر، ومعرفة احتياجات نموها، والعمل على تلبيتها.

ولكن نحتاج قبل الذهاب في هذا الاتجاه إلى الإجابة على أسئلتنا التالية:

كيف يمكن لقيادة الائتلاف الوطني أن تلعب دور قيادة سياسية وهي لا تزال كإطار سياسي خارج مناطق الشمال المحرر؟ ثم ما هي أجندتها في عملية الاستقرار هذه؟ وما أدواتها السياسية أو التنفيذية القادرة على هيكلة مناطق الشمال بما يتناسب ومصالح سكانه وأهدافهم المرحلية والنهائية؟

أولاً، وقبل كل شيء، يحتاج الشمال السوري المحرر للخلاص من واقعه الحالي غير المنضبط أمنياً واقتصادياً واجتماعياً إلى سلسلة خطوات ملموسة، ربما يأتي في مقدمتها ضرورة نقل الائتلاف لغالبية مكاتبه إلى الداخل السوري، لتكوين حالة حوكمة ملموسة، لأن نقل مكاتب الائتلاف إلى الداخل السوري يعني خلق روابط متبادلة بينه وبين من يمثلهم سياسياً. وهذا أمر يجعل من هذه المناطق مناطق تعمل على محاور مشتركة، أهمها تطوير قدرات المنطقة اقتصادياً، بعد ترسيخ أمنها الداخلي ووحدتها المجتمعية.

إن وجود مكاتب الائتلاف الوطني في الداخل سيجعل منها مراكز للتفاعل مع الحاضنة الشعبية، وبالتالي البحث والتشارك في اختيار الأنسب والأفضل لتطوير مستويات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

المناطق المحررة بحاجة إلى أجندة واضحة للحوكمة السياسية، أي أن تكون هذه الأجندة متوافقة مع الحدّ الأدنى للحل السياسي في سورية الذي يمثله القرار 2254، هذا القرار يبقى قراراً ينتظر تنفيذاً دولياً لبنوده في حالة عدم وجود فعل سياسي في مناطق قوى الثورة والمعارضة، بينما وجود حوكمة سياسية تقود المحرر على قاعدة هذا الحل يعني تشكيل حالة شعبية ضاغطة على المجتمع الدولي ليقوم بتنفيذ قراره.

إن الحديث عن ضرورة وجود حوكمة لمناطق الشمال السوري المحرر يطرح على المهتمين بهذا الأمر أهمية بيان الأدوات والوسائل التي تجعل من هذه الحوكمة قادرة على حمل مشروع الانتقال السياسي بعد نجاحها في مشروع خلق الاستقرار والتطوير الاقتصادي في هذه المناطق.

ولعل وجود تمثيل أوسع للحاضنة الشعبية عبر تياراتها وأحزابها الحية الفاعلة، إضافة إلى وجود منظمات مجتمع مدني نشيطة، وتهتم بانتقال الأوضاع الحالية إلى أوضاع مستقرة، سيساعد على تعميق دور الحوكمة السياسية التي يمثلها الائتلاف الوطني السوري.

الجائعون لا فلسفة لهم، والشمال المحرر يعجّ بالباحثين عن اللقمة والعمل والاستقرار، فهل سينعطف مسار الائتلاف الوطني نحو ملاقاة شؤون وشجون السوريين في هذه المناطق، سيما وأنهم الحاضنة الرئيسية للثورة السورية؟

أسئلتنا تحتاج واقعاً ملموساً ينبغي العمل عليه، فهل بدأ مشوار التغيير فعلياً؟ ننتظر الحراك السياسي والشعبي والديبلوماسي للائتلاف الوطني، وبقي أن نقول إن مناطق الشمال لن تأكل وتبني وتتطور دون وجود حوكمة سليمة قادرة على تغيير واقع سلطات الأمر الواقع.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني