الشر في قفص العدالة… جرعة من الإنسانية والأمل
والمقصود بالطبع هو صدور حكم محكمة الجنايات الدولية بإلقاء القبض على نتنياهو وشريكه غالانت، بعد إدانتهم بجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
القرار ليس شكلياً بالطبع وهو ملزم لـ 125 دولة وقعت على اتفاقية المحكمة الجنائية، وهو يعني أن أياً من الرجلين لو وصل إلى أي من هذه البلاد فإن الحكومة مأمورة باعتقاله وتسليمه إلى المحكمة ليودع في السجن، ويسري هذا القرار على دول كبرى في العالم منها دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا وأستراليا واليابان والبرازيل وغيرها من البلاد.
وعلى الفور أعلنت إيطاليا وهولندا والنرويج والسويد ودول كثيرة أخرى استعدادها لتنفيذ القرار الدولي لو دخل نتنياهو أراضيها، فيما لا تزال فرنسا وبريطانيا تؤكدان احترام المحكمة بلغة خجولة ومذعورة، ولكنها دون شك لن تفتح حدودها لهذا المجرم الهارب من العدالة تحت أي ظرف.
وبعيداً عن التحليل السياسي الذي يفترض كالعادة مؤامرات ومصالح وتفاهمات، فإنني ذاهب إلى التحليل الإنساني لهذا الحدث الكبير.
نعم إن الحدث كبير جداً، وهو تأكيد على انتصار الإنسان في النهاية، حيث ضربت العدالة هذه المرة على رأس البقرة المقدسة التي تقدم نفسها للعالم على بساط المظلومية التي عانت “الأنتي ساميك”، بعد محارق الهولوكوست أيام هتلر، ونجحت عبر الصراخ واللطم في محافل الأمم في جعل كل نقد لسلوكيات اليهود عملاً لا سامياً تعاقب عليه قوانين البلاد الأوروبية.
اليوم تنعطف العدالة يميناً بشكل غير متوقع وترصف الإرهابي الشقي على قائمة المدانين أخلاقياً وإنسانياً، وتعلن المحكمة التي تطارد اللاسامية أن جرائم إسرائيل باتت تفوق كل جريمة لاسامية، وأن العويل من أفق المظلومية لن يخلصهم من قيود المحاكم الدولية ومطارداتها التي ستسمر إلى وقوع الكبش في القفص.
وهكذا فإن الدول التي تربطها بإسرائيل أوثق الصلات والتاريخية باتت مأمورة الآن باحترام القضاء الدولي الذي وقعت على تأسيسه، وتغيرت على الفور الصورة النمطية للبلد الذي يقدم نفسه واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، بعد أن غرق في دماء 44000 ضحية في غزة، وأكثر من مائة ألف جريح ومليون نازح، تحت عنوان الدفاع عن النفس!.
ولعل من أهم ما يميز هذه المحاكمة أنها بدأت بادعاء بلد غير عربي ولا مسلم ولا جار، وهو جنوب أفريقيا، وانضم لها فيما بعد عدد من الدول العربية والإسلامية، وهكذا فإن المظالم التي عاناها الأفارقة من الأبارثيد العنصري صارت مناسبة دافعة لهذه المحاكمة، وقدمت هذه المحاكمات رسالة واضحة أن الإنسانية أسرة واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمى.
لا تربطنا بجنوب أفريقيا قومية ولا جوار ولا لغة ولا دين، ولكن تربطنا بها الإنسانية، حيث أنجز الإنسان تطوراً هائلاً في اكتشاف المشترك الإنساني والبناء عليه، بدلاً من الكهنوت والإيديولوجيات التي تفرض في الأرض روح التناحر والكراهية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً، ويمنحنا الفرصة ان نستعيد الثقة بالإنسان، والإنسان أخ الإنسان، وأن الله خلق العالم من أجل نهاية سعيدة، والتطور الحضاري لا بد أن يحمل الشعوب على الوقوف مع المظلوم ورد كيد الظالم وشره، والإنسانية تتجه صعوداً نحو أفق يحترم العدالة ويرفض المظالم.
لا أستطيع بالطبع أن أقول إن العدالة تتربع على عرشها اليوم، ولا أزعم أن الظلم قد ارتد عارياً مرذولاً، فالمشوار طويل، وبالأمس رفع المندوب الأمريكي يده ضد وقف الحرب في غزة للمرة الثامنة في هذه الحرب المجنونة، ومن المؤسف أن تصدر هذه السياسات المنحازة المؤلمة في البلد الذي تأسس على الدستور والحريات وحقوق الإنسان، ولكن مع ذلك كله، فإننا نستعيد الإيمان بالإنسانية بعد سيل من المظالم.
مرحى لهذا التفوق الإنساني، ومرحى للقاضي الشجاع الذي لم تأخذه في الله لومة لائم، وهو يستجيب لوثائق الحقيقة ويقف مع الإنسان في تحد شجاع لآلة الحرب والكيد والأخطبوط الصهيوني الممتد عبر وسائل الشر السوداء في كل مكان في العالم الغربي.
إنها فرصة بالفعل نستعيد بها الإيمان بالإنسان، ونعيد بناء العلاقات بين الشرفاء في الأرض على أساس القيم الإنسانية والأخلاقية، بعيداً عن الأطماع التعيسة التي أشعلت الأرض بالحرب والفوضى والكراهية.