fbpx

السياسية النسوية ضرورة أم قفز على الواقع

1 772

برز مفهوم “السياسية النسوية” كضرورة ملحة للتعبير عن درجة تطور الواقع الاجتماعي والاقتصادي السوري، وهو مفهوم يختص بالمواضيع القائمة على حقوق الجنسين (المرأة والرجل)، والتفاوت الصريح والعميق في هذه الحقوق، ما يجعل من مسألة المساواة في الحقوق والواجبات ضرورة حقيقية، تعمل كدافعة تطور اجتماعي، وتلغي التفاوت القانوني والحقوقي وغيرهما، ما يسمح بتطور أشمل وعدم هدرٍ لطاقة نصف المجتمع (المرأة).
بدأ بروز مفهوم “السياسية النسوية” في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، أي أواخر القرن العشرين، وكان المقصود منه الدفع باتجاه مشاركة فعّالة للمرأة، بحيث تكون هذه المشاركة على كل مستويات الشأن العام الوطني، سياسياً وقبل ذلك حقوقياً.
لقد ظهرت السياسية النسوية في دول كثيرة، وكانت مقدماتها تختلف من بلدٍ إلى آخر، هذا الاختلاف مرهون بعوامل التطور المختلفة، ودرجة تدخل الشأن الديني في الحياة الاجتماعية والسياسية والقانونية.
إن الفارق في الأسباب والأهداف والوقت وثقافة البلاد، حدّدت صورة تجلي مفهوم “السياسية النسوية”.
إن مفهوم السياسية النسوية في سوريا لا يزال بعيد التحقق، فهناك عوامل كثيرة تلعب دوراً مثبّطاً لانتشار وتوسع قاعدة الوعي بهذا المفهوم، ويأتي في أول هذه العوامل درجة التطور الاقتصادي والسياسي، فالاقتصاد محدّد لتطور البنى الاجتماعية وحاجاتها، وبالتالي، مادامت درجة التطور الاقتصادي منخفضة، فهذا يعني عدم قدرة المجتمع على تشكيل بناه الجديدة التي تتوافق مع هذا التطور.
كذلك تلعب التنظيمات السياسية النسوية دوراً في ترسيخ هذا المفهوم على المستوى الوطني، وهذا يتطلب رؤية عميقة لبنى المجتمع، وقدرتها على حمل هذا المفهوم، ومثل هذا الأمر لا يزال ضعيفاً على المستوى الفكري، وبالتالي فهو ضعيف على المستوى الاجتماعي.
إن تغيير البنى الاجتماعية لا يتمّ بقرارات فوقية، بل يأتي عن طريق بناء تنمية وطنية اجتماعية اقتصادية شاملة، مثل هذه التنمية تحتاج إلى شروط واقعية متوفرة، تحمل هذا البرنامج التنموي، وتدفع باتجاه تطويره وتعميقه.
إن القول بالتنمية الشاملة يعني بالضرورة التنمية بشقيها الاقتصادي والبشري، فكيف يمكن إدارة برنامجٍ تنموي وطني دون أن يكون هناك تنمية بشرية مرافقة له.
هذه التنمية البشرية والاقتصادية تحتاج إلى مؤسسات عمل وطنية، ذات طابع ديمقراطي، كي تتحول إلى واقع متطور يشكل دافعاته ذاتياً، بحكم منظمات مجتمعه المدني، التي تطرح المساواة كضرورة، وكدافعة تطور عام.
كما تحتاج هذه التنمية إلى بنى سياسية تؤمن بها، وتعمل بتنافس لتطويرها وشموليتها، وهذا فعل اجتماعي يحتاج إلى قدرين متساويين من الجهد الاقتصادي والبشري، فهذه البنى لا يمكن أن تولد من رحم دولة استبدادية فاسدة.
من هذا المنظور يمكن مناقشة وضع السياسية النسوية، وهل الدفع باتجاه تحقيق هذا المفهوم ممكن واقعياً وسياسياً، أم أن شروط تحققه لا تزال غير ممكنة بالصورة التي تُظهرها منظمات تعمل في هذا الباب؟.
مشروعية السؤال لا تعني رفضاً لمفهوم السياسية النسوية، فهذا المفهوم جاء كحاجة للقول بضرورة وجود تقاسم جنسي للسلطة وقيادة المنظمات، شرط أن تتحقق المساواة بقوة القانون، ولكن هل النساء السوريات يؤمنّ بهذا المفهوم المتعارض فكرياً مع قناعات قطاعات واسعة منهن لا تؤمن بغير الخطاب الفكري الديني الشائع؟.
إن مساواة المرأة بالرجل، تحتاج إلى تحريرهما معاً من سلطة القهر والاستبداد السياسي والفكري والاجتماعي، هذا التحرر مرهون بقوى سياسية تؤمن بضرورته، ولا تجعل من المرأة تزييناً شكلياً له، وهذا يتطلب أن يعاد النظر بمفهوم التقسيم الاجتماعي، وانتقال هذا المفهوم إلى مربع المواطنة.
هنا تبرز المواطنة كمساحة تفكير وعمل مدهشين، فلا يبقى هناك عالم للرجال وعالم للنساء، بل يكون هناك عالم للإنسان، وهذا ما يجب أن تعمل عليه حركات السياسية النسوية ومنظمات حماية المرأة، وغيرها من منظمات المجتمع المدني الخاصة بحقوق النساء.
إننا في سوريا لا نزال نستبعد النساء من دائرة المشاركة السياسية الحقيقية، فمراكز القرار الوطنية لا تزال حكراً على الرجال، ووجود النسوة في المجالس والوزارات هو وجود غير فاعل، وهذا يتطلب من منظمات تعمل لتطوير حال المرأة السورية ووضع استراتيجيات عمل وطنية، تكون مبنية على تقديرات واقعية لوضع النساء السوريات على كل الصعد الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية.
هذه الاستراتيجية تحتاج إلى بيانات واقعية عن أوضاع النسوة في الريف والمدينة ومعرفة التفاوتات الاجتماعية والفكرية بينهن، فالعمل وفق فكرة تحرير المرأة دون خطط واقعية تدرجية ممكنة، سيؤخر بالضرورة تحررها، وسيسمح لمعارضي هذا التحرر مهاجمة ما تريده المرأة من حقوق مشروعة.
إن نشر الوعي بين جمهور النسوة يجب أن يخرج من إطاره النخبوي السائد، وهذا يتطلب جهداً فكرياً وقدرات كبيرة على نشر الوعي في صفوف نساء سوريا.
ولكن هذا لا يتعارض مع بناء تنظيمات اجتماعية، تهتم بحقوق المرأة، شرط ألا يغيب عن وعي هذه المنظمات، أن تحرير المرأة مرتبط بالضرورة بتحرير الرجل من الاستبداد والقهر والإيديولوجيات ذات الطابع الذي يعترف بتفوق الذكورة وولايتها على الأنوثة.
بقي أن نقول: إن السياسية النسوية يجب أن تكون ذات اتجاه غير منحاز للأنوثة بحجة ظلمها التاريخي بقدر انحيازها لتحرير المجتمعات وتحديداً المجتمع السوري. وإن عمل هذه السياسية النسوية لا ينبغي أن يقفز فوق الواقع بل يجب أن يأتي تعبيراً ملموساً عن ضرورة تطوره التدريجية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

1 تعليق
  1. فريال says

    أحسنتِ و وفقتِ بالاختيار آنسة نضال …مقال رائع و تناول موضوع مهم جداً ليس فقط للمرأة بل للمجتمع بأسره

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني