
السياسة والاقتصاد في سوريا، تداعيات اتفاق الرئيس أحمد الشرع وقوات سوريا الديمقراطية على الواقع المالي
في خضمّ دوامة الصراعات التي طالت أكثر من عقد في سوريا، يطفو على السطح اتفاقٌ بين السيد أحمد الشرع ممثلاً عن الحكومة السورية، والسيد مظلوم عبدي ممثلاً عن قوات سوريا الديمقراطية، يحمل بين طيّاته وعوداً بتحوّلات قد تُلامس جذور الأزمة. لا يقتصر هذا الاتفاق على ترسيم خطوط سياسية فحسب، بل يُلامس بوضوح خيوطاً اقتصاديّةً معقّدة، تُشبه مجموعةً من الأسلاك المتشابكة التي تحتاج إلى فصلها بحذر. فكل بندٍ من بنوده، وإن بدا سياسياً في الظاهر، ينطوي على تداعياتٍ قد تُعيد تشكيل الواقع المادي للملايين.
تبدأ القصة مع ضمان حقوق التمثيل السياسي للسوريين، وهي خطوةٌ تبدو كإطارٍ نظري للعدالة، لكنّها في العمق تُعتبر حجر الأساس لأي استقرارٍ اقتصادي. فغياب التمثيل العادل يُنتج غالباً سياساتٍ مُجحفةً تكرّس الفوارق، بينما المشاركة الواسعة قد تُنشئ نظاماً يحفّز الكفاءة ويجذب الاستثمارات. عندما تُبنى المؤسسات على الكفاءة بعيداً عن الانتماءات الضيقة، يُفتح الباب أمام كفاءاتٍ كانت مُهمّشة، مما يُضخّ دماءً جديدةً في شرايين الاقتصاد المُنهك. لكنّ هذا المشهد المثالي يصطدم بواقعٍ قد لا يسمح بتحقيقه سريعاً، فالثقة المفقودة بين المكوّنات تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وخطوات صادقة حقيقية لتعود، والاقتصاد لا ينتظر.
أما الاعتراف بالمجتمع الكردي كجزءٍ أصيلٍ من النسيج السوري، فهو أكثر من مجرد خطابٍ رمزي. فدمج هذه الشريحة في الحقوق الدستورية يعني، اقتصادياً، إطلاق طاقاتٍ بشريةٍ وماديةٍ كانت مُقيّدةً أو مُهمّلة في عهد نظام الأسد (الأب والابن). قد تُترجم هذه الخطوة إلى مشاريع تنموية في مناطق سورية عدة، أو استغلالٌ أفضل للموارد الطبيعية التي تزخر بها بعض المناطق، مثل النفط والغاز المذكورين في الاتفاق. لكنّ هذا التفاؤل يتناسى تاريخاً من التوترات، فدمج المؤسسات الكردية في هياكل الدولة المركزية يتطلّب تنسيقاً دقيقاً، وإلا تحوّل إلى صراعٍ على السلطة والموارد إذا غابت الوطنية كبوصلة للعمل، ويُهدر ما تبقّى من رأس المال الوطني.
ووقف إطلاق النار، رغم أنّه يبدو كـ”هدنةٍ مؤقتة”، إلّا أنّه يُشكّل نقطة تحوّلٍ حاسمة ونريده أن يطوى نهائياً. فالحرب لا تلتهم الأرواح فقط، بل تلتهم الميزانيات أيضاً. تحويل الإنفاق من القنابل إلى البنى التحتية قد يُعيد الحياة إلى طرقٍ مُدمّرةٍ، مدارسَ مهجورةٍ، ومستشفياتٍ شبهَ خربة. لكنّ هذا التحوّل يحتاج إلى قراراتٍ جريئةٍ بإعادة توزيع الموارد، وأحياناً إلى تضحياتٍ من النخب التي اعتادت على اقتصاد الحرب. هنا، يصبح السؤال: هل تستطيع الدولة تحمّل تكاليف السلام بعد أن تكيّفت مؤسساتها مع لغة السلاح؟ حالياً، مدُّ اليد يعتبر نية صادقة يمكن البناء عليها.
لا يغيب عن الصورة موضوع عودة المهجرين، الذي يُلامس جانباً إنسانياً واقتصادياً في آنٍ. عودةُ ملايين السوريين إلى قراهم ومدنهم تُعيد تشغيل عجلة الزراعة والصناعات المحلية، وتُقلّل من الأعباء المالية على الدول المُضيفة. لكنّ هذه العودة تتطلّب أكثر من قرارٍ سياسي؛ فهي تحتاج إلى أرضٍ آمنة، ومنازلَ قابلةٍ للسكن، وفرص عملٍ تُجنّب الناس الوقوع في براثن الفقر من جديد. دون ذلك، قد تتحوّل العودة إلى هجرةٍ معكوسةٍ تُنتج أزماتٍ اجتماعيةً داخلية.
أخيراً، أرى أن الاتفاق يدعو إلى دعم الدولة في مواجهة “مخاطر واضحة وتهديدات”، وهي عبارةٌ تحمل دافعاً وطنياً ينمو كلما ازداد الخطر. فمن جهة، قد يُشير إلى محاولةٍ لتعزيز الشرعية المركزية، التي إن نجحت، قد تُوحّد السياسات الاقتصادية وتُقلّل الفساد. لكنّ فشلها قد يُعيد إنتاج ثقافة الانقسام، التي قد تعيد إشعال الصراع بدلاً من إخماده. والاقتصاد السوري الهشّ أصلاً، لا يتحمّل المزيد من التجاذبات التي تُبعثر أولويات الإصلاح.
بين سطور هذا الاتفاق، تُختبَر قدرة السوريين على تحويل الحبر إلى واقع. فلو نجحت بنوده في تجاوز التنفيذ الشكلي، قد تُولد فرصةً لالتئام جراح الاقتصاد عبر الاستقرار المجتمعي. لكنّ هذا الأمر يُذكّرنا أنَّ الاتفاقيات السياسية غالباً ما تتحوّل إلى حبرٍ على ورق إذا لم تُلاقَ بالعمل الصادق، بينما تظلّ التحديات الاقتصادية تُراوح مكانها، أو تتفاقم إذا ما فشلنا كسوريين في التلاحم. السؤال الأكبر: هل يُدرك الأطراف أنّ الاقتصاد ليس نتاجاً ثانوياً للسياسة، بل هو قلبٌ ينبض بحياة الناس؟ الإجابة ستُحدّد إن كان هذا الاتفاق مجرد صفحةٍ جديدةٍ من الصراع، أم بدايةً لفصلٍ مختلف.