fbpx

السندباد الأعمى: عن الحب والفقد والجسد في زمن الحروب

0 42

في رواية السندباد الأعمى للروائية الكويتية بثينة العيسى لا تسير الحكاية على خط مستقيم، بل تنفتح على طبقات من الألم والفقد والغربة تُروى من وجهة نظر رجل أعمته الحرب لكن المرأة تظلّ حاضرة كصورة، كشبح، كذاكرة، وكاحتمال خلاص. فبين سطور هذا الصوت الذكوري يمكننا أن نقرأ سردية أنثوية صامتة لكنها مثقلة بكلّ ما لم يُقَل.

المرأة بين السطور: حضور عبر الغياب

رغم أنّ الرواية تُروى من وجهة نظر السارد – نواف – إلا أنّ النساء يشكّلنَ العمود العاطفي والرمزي للرواية. نادية ليست فقط الحبيبة المفقودة، بل هي تمثيل لفكرة الوطن الذي يُصنع ويُفقَد، الجسد الذي يُشتاق إليه ويُحمّل المعنى. من خلال النساء يُظهر هشاشته، رغبته في الانتماء، وخوفه من الفقد. فالمرأة من وجهة نظر السارد ليست صامتة، بل محجوبة بوعي الراوي نفسه كأنها انعكاس لنقصه الداخلي لا ذاتاً قائمة بذاتها.

الجسد الأنثوي: استعارة الفقد والتشظي

الجسد في الرواية ليسَ مجالاً للرغبة فقط، بل لغة رمزية للحضور والغياب. نادية هي الحبيبة التي لم يتمكن من لمسها كما يشتهي، والتي تتحول في غيابه إلى امرأة أخرى تنتمي لغيره، تتشكّل بعيداً عنه. الأنوثة هنا ليست فقط علاقة جسدية بل علاقة بالزمن: ما كان، وما لن يعود. الجسد الأنثوي في الرواية يصبح معادلاً موضوعياً للمنفى، للوطن الذي لا يُستعاد.

هل نادية بطلة روائية حقيقية:

بالمعنى التقليدي، لا.

نادية لا تسرد، لا تتكلم، ولا تملك زمام الحكاية، لكنها تتجاوز النمطية بأن تخرج من سيطرة السارد، أن تغير مسارها، وأن تختار. هي بطلة مغيّبة لكنها تقاوم هذا التغييب بالفعل لا بالكلام، ووجودها في النصّ.

هو فعل مقاومة ضمنية لصورة الحبيبة النمطية التي تنتظر، أو تتهدّج بالرغبة. نادية تختار وهذا بحدّ ذاته كسر للتوقع الأبوي.

علاقة الرجل بالمرأة: إعادة إنتاج أم تفكيك للأبوية؟

الرواية لا تطرح نقداً مباشراً للنظام الأبوي، لكنها تكشفه بتعري السارد نفسه. نواف، العاشق الخاسر يواجه نفسه من خلال النساء اللواتي لم يفهمهن أو لم يستطع الاحتفاظ بهن. العلاقة ليست ندية، لكن الرواية نفسها – بأسلوبها – تقترح أنّ هذا الخلل في الإدراك جزء من المأساة، لا مبرر لها. إنها لا تبرر الذكورة المكسورة، بل تضعها تحت المجهر.

هل يتحول السارد؟ وما دلالة تحوله؟

نعم، هناك تحول خفي وبطيء في وعي السارد، من رجل يعتقد أنّ المرأة تُمنَح، إلى رجل يفهم -متأخراً – أنها تختار. من رجل يحزن لأنها تغيرت، إلى رجل يتقبل – بمرارة – أنها لم تكن له.

التحول ليس انتصاراً أخلاقياً، بل انكسار وجودي: حين يدرك أنّ ما ظنه حبّاً كان محاولة امتلاك.

الحرب والأدوار الجندرية: من الضحية إلى الحامل للمعنى.

الحرب في الرواية ليست فقط خلفية، بل قوة تُغير الأدوار. الرجل يُجرَّد من قدرته على الحماية، وتظهر المرأة كقوة فاعلة، تختار أن تبقى أو ترحل. في الحروب تنهار البنى التقليدية، والرواية تلتقط هذا الانهيار بذكاء:

المرأة ليست ضحية فقط، بل حاملاً للذاكرة، وربما – بشكلٍ ما – حارسة للأمل.

ربما الأكثر تأثيراً هو صمت النساء القوي. ذلك الحضور الذي لا يحتاج إلى صراخ كي يُحدث الأثر. الرواية لم تقدّم نساء مثاليات، بل بشراً تتشكل ملامحهم من الحنين، من النقص، ومن محاولات البقاء. المرأة ليست حلماً رومانسياً، بل كائناً تُغيره الحرب، الحب، والمسافة. وفي هذا العمق تتحدى الرواية صورتنا النمطية عن الأنثى في الحب والحرب.

السندباد الأعمى لا يعطينا إجابات، بل يكشف هشاشة كل ما اعتقدنا أنه ثابت. الحبّ ليس خلاصاً، بل اختبار للوعي. الوطن ليس أرضاً فقط بل شخصاً، أو جسداً أو إحساساً بالانتماء الذي نفقده. والمرأة ليست مرآة للبطولة الذكورية، بل كياناً يعكس مأساتنا نحن، نحن الذين فشلنا في الحبّ وفي الحماية، وفي الاعتراف.

رواية “السندباد الأعمى” لا تمنح النساء دور البطولة التقليدي، لكنها أيضاً لا تمنح السارد الحقّ المطلق في السرد، وبهذا تفكك الرواية الأدوار الجندرية وتُعيد تشكيلها لتجعلنا نُعيد السؤال:

من يحكي؟ ومن يمنح الآخر معناه؟

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني