السلم الدولي بين كلّاس وطحّان
تستقر في الذاكرة الشعبية بعض الأمثال التي يكثر تداولها بسبب عموم وتكرارها الحوادث التي تنطبق عليها هذه الحكم والأمثال، ومن هذه الأمثال المثل الشعبي القائل “كلاس لا يغبر على طحان” ويعني هذا المثل أن من يعمل في مهنة التكليس مثله مثل الذي يعمل بالطحين فكلاهما تغطيه غبرة الكلس وغبرة الطحين فإن اجتمعا أو تصافحا أو تعانقا لا يكثرتان بأناقتهما ولا نظافتهما فكلاهما في الغبرة سواء، ولا يستطيع أيهما المزاودة على الآخر بالنظافة.
وللأسف لقد أصبحت المنظمة الدولية بكل هيئاتها ومجالسها ومؤسساتها وخاصة مجلس الأمم الدولي ميداناً لتصفية الحسابات السياسية، وسوقاً للابتزاز وشراء الذمم، والانتقائية في المواقف حتى أصبح شعارهم “لكل فولة كيال”، أي لكل قضية خصوصيتها وإن تشابهت القضايا في الأساس القانوني، والسياسي، لكنها تختلف في البعد المصلحي الذي أصبح المحدد والمعيار في اتخاذ المواقف، بعيداً عن مبادئ العدالة والمساواة التي يتشدق بها زعماء الدول وموظفي المنظمات الدولية التي أدت إلى تعطيل دور هذه المنظمات وتدمير البنية الأخلاقية والقانونية التي تقوم عليها المنظمات الدولية حيث أصبح أعضاؤها في الإثم سواء ولم يعد يستطع أي منهم المزاودة على الآخر بالطهر والنقاء.
وأبرز مثالٍ لهذا الواقع السيء لدور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي هو طريقة تعاملهما مع القضية السورية، التي أظهرت النفاق والتخاذل الدولي، وخواء المبادئ القانونية والأخلاقية الدولية التي عادة ما تسقط عند أدنى استحقاق إنساني الذي يفرض على المجتمع الدولي الحد الأدنى من الإنسانية بما لا يعطل تقديم الدعم الإنساني للمحتاجين من المهجرين والنازحين كما يجري كل عام ومنذ سنوات عند البحث في تجديد الآلية الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود.
الأسس التي بنيت عليها هذه الآلية، التي قام عليها قرار مجلس الأمن الدولي رقم “2165” لعام 2014:
- خطـورة وسرعة تــدهور الأوضاع الإنسانية في سورية وارتفاع عدد الأشخاص المحتاجين للمساعدة ويقدر عددهم بـ “10” ملايين شخص منهم “6.4” ملايين من المهجرين قسرياً.
- عدم التزام النظام السوري بقرار مجلس الأمن الدولي رقم “2139” لعام 2014 والذي يفرض عليه احتــرام مبــادئ الأمــم المتحدة التوجيهيــة لتقــديم المــساعدة الإنسانية في حالات الطوارئ دون أي تحيزات وأغراض سياسية.
- ارتباط الحالة الإنسانية بالحـل السياسي للأزمة، فكلما طال أمد النزاع طال أمد الأزمة الإنسانية وتفاقمت نتائجها، والسبيل الوحيد لوقفها هو تشكيل هيئة الحكم الانتقالي وفق بيان جنيف لعام 2012 وقرار مجلس الامن الدولي رقم 2118لعام 2013 التي تفـضي إلى مرحلـة انتقالية تلـبي التطلعـات المشروعة للشعب السوري وتمكنه من أن يحدد مستقبله.
- منع الإفلات من العقاب ومحاسبة المجرمين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي أدت الى هذه الكارثة الإنسانية.
- كل هذه الأسباب الدافعة لإنشاء الآلية الدولية لتقديم المساعدات الإنسانية عبر الحدود ما زالت قائمة، فمازال النظام يمعن في جرائمه ضد الشعب ومازال القتل والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري مستمراً بالإضافة إلى نهب الأموال والممتلكات، ومازالت قوى الغزو الروسي والإيراني ومرتزقتهما وميليشياتهما يعيثون فساداً وتنكيلاً بالشعب السوري، ومازالت أعداد المهجرين والمشردين في ازدياد بسبب فساد هذا النظام وإجرامه، ومازال النظام وحلفائه يتهربون من استحقاقات الحل السياسي وضرب القرارات الدولية عرض الحائط، ومازالت العدالة الدولية معطلة، فلم يعد السوريين في مأمن من بطش عصابات النظام، ولا سبيل لهم للوصول إلى حقوقهم.
رغم ذلك فما زال المجتمع الدولي منقسم حول واجب تحمل مسؤوليته في حماية المدنيين والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، والخضوع للمساومة والابتزاز الروسي/الصيني لإعادة تعويم الأسد ونظامه مقابل تمرير المساعدات في أحقر ممارسة سياسية تشهدها أروقة الأمم المتحدة على يد مجرمي العصر في روسيا وسورية وإيران، ورضوخ المجتمع الدولي رغم قدرته على تجاوز الفيتو الروسي/الصيني عبر اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عبر نفس المسار الذي اتبعه الغرب في التعامل مع الغزو الروسي لأوكرانيا والدعوة إلى جلسة استثنائية للجمعية العامة استناداً إلى قرار “متحدون من أجل السلام” رقم 377 لعام 1951 واتخاذ قرار بحق النظام الروسي باعتباره مصدر تهديد للسلم والأمن الدوليين وإخلاله بالالتزامات القانونية التي يفرضها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وإعمال المادة “6” من الميثاق، واتخاذ قرار باعتبار وجوده وإيران في سورية وجوداً غير شرعي الذي يحوله إلى طرف في نزاع داخلي يوجب حرمانه من التصويت على أية قضية تخص النزاع في سورية سنداً للفقرة “3” من المادة “27” من الميثاق.
فهل ينتظر المجتمع الدولي من السوريين مما تفعله روسيا والصين من استقواء بمكانتهما في مجلس الأمن الدولي على شعبٍ أعزل مضطهد، أن يحولوه إلى وحوش تبحث عن لقمة عيشها في المجتمعات التي تحتضنها، أم يريدون دفعه إلى العنف دفعاً للدفاع عن نفسه وعن حقه في الحياة والعيش الكريم، وإن ذلك آتٍ لا محالة إذا استمر هذا المجتمع بالتخاذل والانصياع والرضوخ للابتزاز الروسي وعندها فليقرأ الجميع على الأمن والسلم الدوليين السلام، وحينها يتحقق قول الشاعر العربي: ندم البغاة ولات ساعة مندم… والبغي مرتع مبتغيه وخيم؟!.