fbpx

الرحيل ممكنٌ.. بدون حقائب..!

0 48

-1-

لما بلغنا حدود تركيا من جهة عفرين، كانت سيارة حرس الحدود جَيْئة وذَهابا تزرع بهديرها الطريق الترابي الحدودي بالرهبة والوعيد..

استقرت جماعتنا الصغيرة على ربوة كثيفة الشجر، تطل على الدرب، وفيها تناثرت بضع خيام صغيرة، أصحابها مازالوا ينتظرون منذ أيام فرصة سانحة للعبور، أشار مرافقنا المهرّب إلى الجانب الآخر المفصول بأسلاك شائكة: من أراد منكم المجازفة فليستعدّ الآن.. وفي اللحظة التي توارت فيها السيارة، أشار لنا بيده مثل قائد في معركة.. يللااا

ثلّةٌ صغيرة منهم أنا وابن عمي، انطلقنا بسرعة البرق نحو الأسلاك الشائكة، واخترقناها غير مبالين بالخدوش المؤلمة، ثم دلفنا إلى حِرْج قريب، ومن خلفنا تعالى صراخ الحرس ممتزجا بلعلعة الرصاص، تابعتُ الركض بأقصى طاقتي، وخلف ظهري التصقت حقيبتي الصغيرة، تشدني الى الوراء، وتبطئ من خطاي، بقيت متمسكا بها رغم فرط المشقة والأخطار المحدقة، تلفت مذعورا حولي باحثا عن أقصر سبيل للنجاة، فلم أبصر أمامي سوى طرق ضيقة أفعوانية بين أشجار العوسج المتشابكة.. كان الشباب قد سبقوني، وانقطع أثرهم عني، لكني تابعت الركض على غير هدى، حتى تخافتت الأصوات من حولي، وران السكون على المكان، فالتقطت أنفاسي قليلا، وجرجرت قدمي المتثاقلتين إلى حقل فسيح محروث، تحرسه أشجار الزيتون.. وفجأة تناهى إلى سمعي صوت بدا لي مألوفا، ينادي من آخر البستان.. كان ذاك ابن عمي..!

-2-

في بحر إيجة الغارق في الظلماء قبيل الفجر بقليل تعطل المحرك بعد أقل من نصف ساعة، بدأ المركب الصغير يترنح براكبيه في اليمّ العريض، وحوله الأمواج العالية تتراقص كأشباح سود تلاعبنا، واكتمل المشهد بزخات من المطر، طفقت تتجمع في قاع المركب الصغير.. فتيقن الجميع أننا مقبلون على الهلاك، وتعالت الأصوات تجأر بالدعاء، وضجت النساء والأطفال بالبكاء والصراخ، ثم ما لبث أن صاحَ منادٍ من بيننا: أنْ القوا بأمتعتكم أيها الناس إن كنتم ترجون النجاة.. تناولت حقيبتي الصغيرة من بين قدمي، وقد تبللت بالمياه، عزّ علي أن أفارقها.. حقيبتي التي هي أغلى ما أملك، ضممتها إلى صدري، وكأنها بعضٌ مني، ودارت في ذهني فكرة خاطفة… ماذا لو أنني ألقيت بنفسي في الماء، لعلّي معها أبلغ الشاطئ الآخر بما تبقّى من عزم فيّ.. وقبل أن… كان أحدهم قد انتزعها بقوة من يدي وقذفها إلى المحيط الذي فرشته حقائب الناس..!!

ثلاثة من الشباب قفزوا إلى الماء يبغون الوصول للشاطئ الآخر.. أما المركب التَعِس فما زال من هول المصاب، يرقص كالدراويش على عزيف النحيب والدعاء.. ساعتان انقضتا كأنهما دهر، والرعب يُحيق بنا، وإذ بدأت جحافل الظلام تتلاشى رويدا رويدا.. لاحت لنا في الأفق القريب سفينة، تبيّن أنها خَفَر السواحل التركي.. انتشلتنا من بين براثن الموج والموت، وأعادتنا في المساء إلى الشاطئ التركي من حيث بدأنا…

أما الشبان الثلاثة فما من أثرٍ لهم..!!

سنوات مرت.. ومازال ذلك المشهد الأليم حيّا في ذاكرتي.. ومازلت أسأل نفسي…

ماذا لو أنني قفزت إلى الماء مخاطرا بحياتي من أجل تلك الحقيبة.. تلك التي لم أعد أتذكر من أمرها شيئا…؟ ولعلها لم تكن تحوي سوى أشياء نافلة التقطتها على عجَل قبل الرحيل..

أولستُ حقا مازلت مديناً بحياتي لذلك الرجل المجهول الذي انتزعها مني.. وألقاها في غياهب.. اللج العميق..؟!!

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني