fbpx

الدولة المستحيلة1

0 382

يعيش الأكراد على هذه الأرض منذ عشرات السنين، مكوّنٌ أساسي من مكونات المجتمع السوري، وهم يشكلون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط التي يبلغ تعدادها أكثر من 30 مليون إنسان، ويتحدثون واحدة من لهجتين أساسيتين للغة الكردية. وكانت الدول الإستعمارية قد وعدت بكيان يضم الأكراد في “كردستان تركيا”، في الاتفاقية المعروفة بـ “سيفر” نهاية الحرب العالمية الأولى، إلا أن الأتراك قاتلوا لإسقاط شروط المستعمر، وانحاز لصفّهم المتدينون الأكراد على اعتبار بريطانيا “المسيحية” عدوّةً للإسلام، في حين انحاز القوميون إلى المعاهدة على الرغم من قناعتهم بعدم حصولهم على الكثير تحت رحمة البريطانيين، إلى أن تفاجأ الطرفان بإلغاء الاتفاقية، وقيام دولة تركية قومية وعلمانية في الوقت نفسه.

عند قيام الجمهورية التركية الحديثة بقومنة مجالها البشري وفرض نموذج “الدولة/الأمة”، قامت ثورات عشائرية كردية ضد مشروع الصهر القومي التركي، ويُذكر في كتاب “مسألة أكراد سورية” أنّ المسألة الكردية كانت نتاج تساقطات تاريخية تركية على الجغرافيا السورية أكثر مما هي سورية. حيث بدأت الهجرة إلى شمال شرق سوريا مع تصاعد المواجهات مع الدولة التركية، وتميزت هذه الهجرة بطبيعتها الإثنية القسرية، نتيجةً للقمع الذي تعرض الكرد في تلك الحقبة.

فرضت المشكلة الكردية نفسها كواحدة من أهم الأحداث على الساحة العراقية بعد ثورة 1958 التي أطاحت بالملكية هناك، وبسبب غياب الرؤية الواضحة لمصطفى البرزاني انقطعت جسور التواصل بين القادة والمواطنين، ولم تسفر الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الجديدة في حل المشكلة. كما رفضت الولايات المتحدة آنذاك التدخل لشكوكها بشيوعية البرزاني والحركة الكردية برمتها، بعد أن كان البرزاني قد قضى أكثر من عقد من الزمن في منفاه في الاتحاد السوفييتي.

في سوريا والعراق، كان وصول حزب البعث إلى السلطة في ستينيات القرن الماضي، إحدى أكبر نكسات هذه الأمة، وكان للأكراد نصيب قاسٍ من “رجاحة” عقل البعثيين “وذكائهم” في قيادة الدولة والمجتمع، وأضيف فصلٌ جديد للحكاية الكردية، تمثّل بتدخل القوات السورية بشن حرب في شمالي العراق ضد الأكراد، بحجة أن القوة الكرية في العراق هي الأكثر تنظيماً وتحريضاً في المنطقة. تعاظَم القلق البعثي من المتدينين الكرد، وابتكرت أساليب قسرية لإضعافهم وتجهيلهم ثم تهجيرهم خارج سوريا، خاصةً مع اكتشاف البترول في الجزيرة السورية للحيلولة دون استفادتهم من تلك الثروة، وكان من تلك السياسات المعروفة ما سمّي بالحزام العربي الأمني بطول 300 كم وعرض 10 كم، ابتداء من الحدود العراقية شرقاً إلى ما وراء رأس العين غرباً، حيث تم إحلال المزارعين العرب محل الكرد وتعريب أسماء المدن والقرى.

ومع انحسار التمدد الشيوعي عقب الثورة وخشية إيران من صعود المد القومي العربي، أدركت إيران وإسرائيل أنّه يمكن استغلال الفرصة لمقاومة ذلك المد، من خلال ترك جيش العراق الكبير مشغولاً عن إسرائيل في الداخل، وإبقائه بعيداً عن الطموحات الإيرانية في الخليج العربي، لكن الولايات المتحدة لم يتغير موقفها وآثرت عدم التدخل. حينها شعر صدام حسين القادم الجديد إلى سدة الحكم بالخطر، واستنتج أن الحرب ضد أكراد بلاده كانت بلا فائدة، لذا سافر إلى الشمال والتقى البرزاني هناك، ونزل عند مطالب الأكراد في منحهم الحكم الذاتي في 1970 ضمن عراقٍ موحّد، لكن صدام اشترط وقتئذ أن يتم تأجيل تنفيذ الاتفاق إلى 1974 محاولاً تعزيز قبضته على مفاصل الدولة، وحين حالت الأحوال قام الرئيس العراقي بدلاً من ذلك بفرض نسخة مخخفة من الحكم الذاتي ومن جانب واحد، ليردّ البرزاني بطلب الدعم الأمريكي والإيراني.

دفع التقارب العراقي/السوفييتي إلى تحول موقف الولايات المتحدة، وبحسب مجلة “فورن بوليسي” أرسل كيسنجر أوامر نيكسون في ذات العام إلى السفير الأمريكي في طهران، مخبراً إياه بالأهداف الأمريكية التي تمثلت في:

(أ) منح الأكراد القدرة على الحفاظ على قاعدة معقولة للتفاوض من أجل الاعتراف بحقوق حكومة بغداد. (ب) إبقاء الحكومة العراقية الحالية مقيدة، ولكن (ج) عدم تقسيم العراق بشكل دائم، لأن منطقة كردية مستقلة لن تكون مجدية اقتصادياً، وليست للولايات المتحدة وإيران مصلحة في إغلاق باب العلاقات الجيدة مع العراق تحت قيادة معتدلة. وكان أن شن الجيش العراقي هجوماً شاملاً ضد الأكراد محققاً مكاسب كبيرة على الرغم من الدعم الإيراني والإسرائيلي.

استمرت إيران في الدعم مستغلة الخلافات بين القيادات الكردية والحكومة العراقية، وبقيت الحال كذلك إلى أن قرر العراق التماشي مع الإيرانيين في اتفاقية الجزائر عام 1975، حيث تبادل البلدان السيطرة المشتركة على ممر شط العرب المائي، مقابل التخلي عن التدخلات في شؤون بعضهما.

في تلك الأثناء كان حافظ الأسد جالساً على كرسي الحكم، وفيما كان يخترع مقولته المفضلة “إلى الأبد.. إلى الأبد يا حافظ الأسد”، نشب الصراع بينه وبين صدام حسين إثر تراكمات قديمة متعلقة بالحزب، بدأ الأسد الأب الذي يلازم اسمه المجازر والجرائم، في تقديم التسهيلات والدعم لأكراد العراق طمعاً في إسقاط الحكم فيها.

تأسس حزب العمال الكردستاني نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، وانتُخب أوجلان سكرتيراً له، وإثر قيام الجيش التركي بالانقلاب على الحكم، قرر الـ PKK خوض الحرب ضد تركيا في عام 1984، وبعودة الخلاف السوري/التركي حول لواء اسكندرون، والصراع على مياه نهري دجلة والفرات، احتضن حافظ الأسد حزب العمال الكردستاني، حيث اتخذ الحزب من سوريا قاعدة لشن الهجمات ضد تركيا، وبدأ الأسد الأب يشجع الكرد على الهجرة إلى تركيا والانضمام للحزب، وبذلك استطاع تصدير المشكلة خارج الحدود السورية ليتفرغ لتدمير بقية مكونات المجتمع السوري.

في خضم ذلك الصراع أقدم صدام حسين على ارتكاب واحدة من أشنع المجازر في التاريخ، حين قام بضرب مدينة حلبجة بالسلاح الكيماوي متسبباً بمقتل وإصابة الآلاف من الناس، انتقاماً لدورها المتعاطف مع إيران في حربها ضد العراق.

بعد حرب طويلة وهجمات دموية للـ PKK ضد الحكومة التركية، وجهت تركيا اتهامات للأسد بدعم الحزب الساعي للانفصال عنها، وهددت تركيا بحربٍ شاملة دفعت الأسد من خلالها إلى الرضوخ لمعاهدة أضنة، التي تجيز لتركيا التدخل في الأراضي السورية، حال بروز خطرٍ من أي جماعة تستهدف الأمن القومي التركي، وبذلك انتهى شهر العسل بين حافظ الأسد مرتكب مجازر حماة وتدمر وجسر الشغور، وأوجلان صاحب السجل الشنيع في المجازر التي استهدفت الأراضي التركية.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني