الدولة الحديثة والقضية القومية
يواجه الشعب السوري مجموعة عديدة من الأسئلة الوجودية، منذ رفضه الخنوع والاستسلام للمافيا الأمنية والاقتصادية الأسدية القابضة على خيرات وخيارات الدولة السورية، ومنها علاقة الدولة الحديثة المرجوة بالقضية القومية العربية من جهة والكردية من جهة أخرى على وجه التحديد، بحكم انعكاسها على المجتمع السوري وحقوق المواطنين السوريين، وبحكم تأثيرها على الهوية الوطنية الجامعة، ونتيجة الخشية من تقسيم الجغرافيا السورية وفق أهواء دولية أو فئوية متسرعة تلبية لمطامح قومية متعصبة تلغي الآخر كلياً. حتى بات من الواضح بعد مضي أكثر من تسع سنوات على اندلاع الثورة السورية، محورية النقاش القومي والبحث عن ضرورة حل القضية القومية في أي مشروع جدي يهدف إلى بناء دولة سورية حديثة، تلبي مطامح السوريين بالعدالة والحرية والمساواة الشاملة والكاملة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
فمن المفهوم في الأشهر الثورية الأولى تحاشي غالبية السوريين أفراداً وجماعات الدخول في نقاش المسألة القومية، لصعوبة التطرق لهذه القضية الجوهرية مجتمعياً وإنسانياً وسياسياً نتيجة عوامل عديدة، منها تعقيداتها وحساسيتها بالنسبة لقطاعات شعبية عريضة، والأهم بحكم خطاب نظام الأسد ذي التوجه القومي المتعصب، الذي مثل واحدة من أهم ركائز حكم الأسد الأب خصوصاً، والذي تراجع حضوره الفج قليلاً في مرحلة الأسد الابن، ليصبح جزءاً من منهجية مشوشة ذات خطاب متخبط يعلي من القيم السورية أحياناً ومن القيم القومية في أحيان أخرى. أي بالعموم بقي الأسد الابن مخلصاً ووفياً لخطاب نظام أبيه العنصري والمتعصب بكلتا الحالتين، أي سواء أعلى من شأن الانتماء السوري أو العربي. وعليه فقد صعب على الشعب السوري الفصل بين القضية القومية من ناحية، ونظام الأسد من ناحية ثانية، تماماً كما صعب عليه فصل قضية فلسطين عنه، رغم قناعة جميع السوريون بمتاجرة النظام بهاتين القضيتين واستخدامهما كغطاء يخفي إجرامه بحق الشعب السوري ونهبه لخيارات الدولة والمجتمع، على الرغم من مئات الأمثلة والشواهد على منهجية الأسد الاستبدادية والإقصائية، تجاه مجمل السوريين بمن فيهم أصحاب الخطاب والبرامج والملامح القومية العربية؛ غير الأسدية؛ وبالتالي تجاه أي محاولة جدية لحل المسألة القومية في سورية، وخصوصا العربية والكردية منها.
فقد حصر الأسد القضية القومية في إطار وحيد ثابت وجامد يتحكم هو وحده به وباتجاهاته، كي يخدم منظومة النهب والاستبداد، بما يكرس هيمنة النظام على الدولة، ويمكنه من أسر كامل المجتمع. إذ يسهل تتبع مظاهر تلاعب النظام بهذه القضية بشقيها العربي والكردي، كتحالفاته الطائفية اللبنانية؛ مع قوى مسيحية ومن ثم شيعية؛ التي برر بها احتلاله الأرض اللبنانية وهيمنته على الدولة فيها ونهبه لثرواتها بصورة فجة وعلنية، ومثل كرهه المقيت لتوأمه العربي الآخر في العراق؛ أي لنظام صدام الاستبدادي والمافيوي أيضاً؛ وفي تحالفه مع عبد الله أوجلان حيناً، وخيانته وتسليمه لاحقاً، وفي قمعه وسجنه وكبته لمئات الأصوات الناقدة لنظامه وممارساته حتى لو انطلقت من زاوية قومية. حيث كرس الأسد هيمنته وحكمه على الدولة والمجتمع عبر أسلوب وحيد وواحد، ينطلق من سحق جميع حقوق المجتمع السوري الفردية والجماعية، لنشهد مئات النماذج عن سحق حقوق العرب والكرد، بما فيها الحقوق الثقافية والحقوق الإنسانية البسيطة كالحق في التعليم والعمل والاستشفاء وصولاً إلى الحق في المواطنة، التي عانى منها الكثير من أكراد سورية تحديداً، وعانت منه المناطق السورية المنسية في الرقة والدير وإدلب وباقي المحافظات السورية.
حيث ساهم الواقع الأسدي المشوه والمُشوه لأي قضية وأي مسألة كانت في دفع السوريين إلى أحد مسارين، إما الهروب من معالجة وتحليل القضية القومية على اعتبارها وصمة أسدية محرمة ثورياً، أو محاكاة النهج الأسدي بتبني خطاب قومي أو طائفي متعصب استبدادي وعنصري، خطاب ينفي الآخر ويلغيه قولاً وفعلاً، ولا يتوانى عن الاستفادة من أي دعم من أجل تحقيق ذلك، ما فتح الباب أمام القوى الخارجية لترفع من مستوى تدخلها وتحكمها بسورية. وعليه ومن أجل طوي هذه الصفحة ومعالجة أخطائها وتراكماتها التاريخية والحديثة، يجب على السوريين اليوم معالجة القضية القومية العربية والكردية وفق منظور حقوقي أولاً، ومنظور إنساني تشاركي متساو ثانياً، ينبذ المفاهيم العنصرية مهما صغرت، بعيداً عن منهجية الأسد العنصرية. ولذا لابد من وقف التهجمات المتجنية على أي طرح يحاول معالجة القضية القومية في سورية، عبر اتهامات مسبقة وجاهزة غير مدعمة بأدلة ميدانية أو نظرية مستمدة من الطرح نفسه، اتهامات تلغي الآخر بتهمة محاباة الأسد أحياناً ومحاباة قوى الخارج أحياناً أخرى. مع ضرورة صد أي نزعة أو خطاب قومي ذي ملمح عنصري مهما صغر هذا الملمح.
فمن غير المعقول إنكار حجم الظلم الفردي والجماعي؛ القومي؛ بحق أكراد سورية، ظلم رسخه نظام الأسد لكنه لم يبدأ معه فقط، ظلم أسس لتصاعد خطاب انفصالي عنصري وتعسفي تجاه باقي السوريين. كما لا يجوز الاستمرار في إنكار متاجرة الأسد بالقضية القومية العربية لمصالح فئوية تخصه وتخص العصابة الحاكمة إجمالاً، فقد أثبت الأسد كم الأذى الذي تسبب به للعرب شعوباً ودولاً، وثبت تجييره للمسألة القومية وعدم اكتراثه بحلها، كما مثل الأسد نموذجاً بشعاً للخطاب القومي العنصري المتعصب، الذي يأسر المجتمع بقوة أمنية وعسكرية تحت ذريعة حماية الأمن القومي، فالأمن القومي الأسدي هو أمن العصابة الحاكمة وعلى رأسها الأسد وعائلته، ولو كان الثمن الشعب أو الوطن أو القومية التي يدعي الانتماء والتعبير عنها. لذا فقد عانى السوريون العرب كنظرائهم الكرد من تعسف واستبداد وإجرام الأسد، وإن اختلفت درجات المعاناة قليلاً في بعض القضايا والمسائل.
من هنا نود الإشارة إلى أن حل المسألة القومية يبدأ بالاعتراف بالقوميات كافة وبإقرار جميع حقوقها الثقافية والسياسية على قاعدة التمازج والتشابك والتكافؤ، والإقرار كذلك بحق الشعوب في تقرير مصيرها ولو بعد حين، أي بما يمنح المجتمع السوري الحر فرصة لنسج علاقات مواطنة متساوية لا تمايز بين سوري وآخر على قاعدة قومية أو إثنية أو حتى عقائدية، فرصة قد تمكن السوريين من مزج هوياتهم الثقافية وانتماءاتهم القومية بكل حرية وبما يخدم مصالحهم العامة المشتركة. بدلاً من الاستمرار في مسار قومي متعصب وعنصري ينفي الآخر ويلغيه، بل ويبني نظرته القومية على أنقاض شركائه السوريين في المعاناة والطموح والحق الإنساني.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”