الدور الإسرائيلي في نزاع سد النهضة
في ظل السباق لعقد اتفاق حول سد النهضة الإثيوبي، قبل بدء المرحلة الثانية من ملء خزانه، التي تعد من المسائل الخلافية التي منعت هكذا اتفاق، اختُتمت قبل أيام جلسة المفاوضات حول ملء الخزان وتشغيل السد بين الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا بحضور ممثل الاتحاد الأفريقي. ولم تتفق الأطراف سوى على عقد اجتماعات ثنائية بين ممثلي هذه الدول ومراقبي الاتحاد. وهو ما طالبت به الخرطوم سابقاً بعدما لمست عبثية التفاوض بسبب تعنت إثيوبيا المسلحة بدعم أطرافٍ دولية، يعد الكيان الإسرائيلي أكثرها حضوراً لما قدمه لإثيوبيا من معونات عسكرية لمساعدتها في حمايته وإنجازه، ما يدفع للتساؤل حول حقيقة دوره في كل ما يتعلق بالسد من إشادة وتعزيز الخلافات.
من دون عناءٍ كبيرٍ يمكن ملاحظة التناقض الكبير في موقف الكيان الإسرائيلي من بناء السد العالي في مصر قبل حوالي نصف قرن مع موقفه من بناء سد النهضة الإثيوبي هذه الأيام. وإذ ساق الإسرائيليون حججاً وذرائع لشيطنة السد العالي من أجل منع مصر من بنائه، قدموا الاستشارات والمعونة والدعم العسكري لإثيوبيا لمساعدتها في بناء سد النهضة على أكمل وجهٍ. وبين منع أسباب القوة عن مصر وإكسابها لإثيوبية تبرز قصة تقوية النفوذ الإسرائيلي في القارة الأفريقية الذي لا يتم برأيهم إلا عبر إيقاد حرب المياه لإضعاف مصر، وتقوية منافسيها على مياه النيل، ليصبح النيل في النهاية سلاحاً بيد الإسرائيليين وهم ليسوا مشاطئين له.
منذ إعلان تأسيس الكيان الإسرائيلي، سنة 1948، بدأ يعمل على تحقيق أهدافه الاستراتيجية المتعلقة بالمنطقة العربية المتمثل أحدها بضرورة خوض الصراع الدائم مع دولها فكانت منطقة النيل أكثر المناطق حساسية، التي تجري فيها أهم حوادث الصراع لتأمين السيطرة عليها، أو تحقيق النفوذ فيها أو على أطرافها. وبينما يرى في المنطقة أهمية تتعلق بإشرافها على المضائق الهامة والقنوات البحرية وطرق التجارة العالمية التي تسلك البحر الأحمر للربط بين أوروبا والمحيط الأطلسي من جهة، والمحيط الهندي ودول جنوب شرق آسيا من جهة أخرى، كذلك برزت لديه أطماع في مياهها، وطموحٌ لتنفيذ خطط نقل مياه النيل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، كون الماء أحد أهم ركائز المشروع الصهيوني في المنطقة.
وفي هذا السياق، برزت معارضة الإسرائيليين إقامة السد العالي فساقوا حججاً وادعاءات عديدة لدعم موقفهم، وسعوا لمنع مصر من تأمين مصادر تمويل بنائه، ولا سيما من عوائد قناة السويس بعد تأميمها، من خلال إجهاض مشروع التأميم بالعدوان الثلاثي الذي شنُّوه عليها بالاشتراك مع فرنسا وبريطانيا. وأهم تلك الادعاءات إن السد سيحرم البحر الأبيض المتوسط من كتلة مائية هائلة سيؤدي حجزها إلى زيادة سخونة البحر وزيادة نسبة ملوحة مياهه، وحرمانه من العوالق التي تأتيه خلال موسم الفيضان وتغذي الثروة السمكية فيه، ما يؤدي إلى تناقص كميتها. وهي حجج وادعاءات رددها رموز السلطة في مصر أثناء حكم الرئيس الراحل، أنور السادات، في إطار هجومهم على الحقبة الناصرية، مضيفين أن السد حرم الأراضي الزراعية ومنطقة الدلتا من الطمي الذي كان يزيد خصوبتها فأصبحت فقيرة بعد بنائه.
وهذه الادعاءات، وإن كان معظمها صحيحاً، ولكنها تُهمَل لدى مقارنتها بالفوائد التي جنتها مصر من إقامة السد؛ إذ إنه زوَّد البلاد بالكهرباء اللازمة لتنميتها صناعياً، ومَنَعَ الفيضانات الموسمية التي كانت تسبب أضراراً لحواضرها، وساعد في تنمية الزراعة فيها وتحقيق اكتفاء غذائي. لكن، لماذا لم يجرِ سحب هذه الحجج والادعاءات ذاتها على سد النهضة، وتحميله نسبة كبيرة من المضار المذكورة؟ لقد تناسى الإسرائيليون هذه المضار عندما تعلَّق الأمر بسد النهضة فدعموا إثيوبيا بالاستشارات والتكنولوجيا اللازمة لتستفيد من مواردها المائية وتطوير الزراعة، وهو ما صرح به رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لدى زيارته أديس أبابا، في يوليو/تموز 2016، وقال إن هذا الأمر جزء من استراتيجية كيانه حيال إثيوبيا. كما أن زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، إسرائيل، في أغسطس/آب 2019، ولقائه نتنياهو ركَّزت على التعاون في مجالات الأمن والمياه.
وليس هذا فحسب؛ إذ تشير بعض المعطيات إلى أن الإسرائيليين وضعوا استراتيجية تفاوض إثيوبيا مع مصر والسودان، المتعلقة بملف السد وحجم التخزين ومدة ملء خزانه. وهي استراتيجية يتَّبعها الإسرائيليون في تفاوضهم مع الفلسطينيين، وتعتمد إطالة فترة التفاوض لجني الأرباح مع مرور الزمن. كما وقَّعوا عقوداً مع أديس أبابا للتعاون في مجال إدارة محطات الكهرباء الإثيوبية، ومن ضمنها محطة سد النهضة. كما سربت مواقع إخبارية إسرائيلية موضوع دعم إثيوبيا بمنظومة دفاع صاروخية نوع “سبايدر إم آر” الإسرائيلية، ونشرها حول جسم السد لصد هجمات مصرية محتملة في حال تصاعَدَ النزاع ووصل إلى مرحلة الحرب العسكرية.
ليس من المعلوم إن كانت سياسة الكيان الإسرائيلي في دعم إثيوبيا بالسبل كافة لإنجاح مشروع سد النهضة واستغلال هذا الدعم لزيادة نفوذه في هذا البلد، من أجل التحكم بقراره، ليس من المعلوم إن كانت هذه السياسة تهدف في النهاية إلى الضغط على مصر للموافقة على تنفيذ المشروع الإسرائيلي القديم، المتمثل بمد أنابيب نقل مياه النيل تحت قناة السويس وإيصالها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، مقابل زيادة حصة مصر من مياه النيل عبر زيادة التدفق من سد النهضة. ولكن الحاجة المستقبلية الماسة، والجفاف الذي أخذ يعاني منه الكيان الإسرائيلي، يجبر قادته على التفكير في السبل الممكنة كافة لتحقيق هذا الهدف، ومنها دعم بناء هذا السد.
وفي الوقت الذي يُقوِّي فيه الإسرائيليون موقف إثيوبيا في نزاع حول السد، ويدعمونها في إتمام بنائه، يعملون على نزع أسباب القوة من مصر، ويضعونها على شفير الفقر المائي والتهديد بالموت عطشاً. فإضافة إلى الضرر الذي سيلحق الزراعة في مصر نتيجة نقصان المياه الذي سيسببه السد وسيجعل مصر بحاجة إلى استيراد الغذاء من الخارج، فإنه سيؤدي إلى خسارتها ربع الطاقة الكهربائية المولَّدة من السد العالي، وسيؤدي بدوره إلى تضرر قطاع الصناعة والتكنولوجيا. كما سيؤدي إلى مشاكل اجتماعية ناتجة عن اكتظاظ المدن بالقرويين والفلاحين الذي سيهجرون أراضيهم نتيجة شح مياه الري وينزحون عن قراهم ويلتجؤون للمدن لاكتساب الرزق. وليس من المستبعد أن يفضي هذا في النهاية إلى موجات هجرة جماعية إلى الدول المحيطة أو الدول الأوروبية، وغيرها. كما يمكن أن يؤدي إلى حدوث قلاقل ومشاكل أمنية، وربما إلى ثورة على الحكومات التي ستكون عاجزة عن إيجاد حلول للمشكلات المستجدة.
هنا سيبرز الدور الإسرائيلي الذي ستكون بيده ورقة الضغط الفعالة، التي ستكون مؤثرة في إجبار مصر على تنفيذ ما يطلبه منها الإسرائيليون. وربما لن تكون زيادة حصة مصر من المياه مقابل موافقتها على جر مياه النيل عبر أراضيها وتحت قناتها المائية إلى أراضي الكيان هي الأمر الوحيد المطلوب من مصر تنفيذه، إذ ربما يتعدى ذلك لزيادة نفوذ الإسرائيليين فيها، وتحكمهم بقرارها السياسي والاقتصادي، وهو ما لن يكون بيد قادتها، وخصوصاً منهم رموز نظام السيسي، أن يرفضوه.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”