الحوار: أهميته وآدابه (1)
يبدأ الانسان بتعلم الحوار منذ خطواته الأولى بل قبل ذلك فالمناخ الأول للتعلم هي الأسرة والقدوة الحسنة بتعلم الحوار هي شكل العلاقة والتفاهم بين الوالدين ثم تتعزز بالمدرسة وتنصقل في مؤسسات المجتمع والعقل الجمعي.
الاختلاف، والخلاف: من الناحية اللغوية من مادة واحدة، ولكن جرى الاستعمال على أن يكون الاختلاف: هو في التنوُّع والتعدُّد.
أما الخلاف: فهو ينبئ في الاستمرار بالنزاع والخصام ويتعلق بالرأي أكثر مما يتعلق بالواقع.
فالاختلاف أمر طبيعي تقتضيه الحياة والخلاف متعلق به كتعلق الثمرة بالشجرة.
بنظرة تأملية موضوعية ستجد كل شيء حولنا مختلف عن بعضه بعض، ونحن كبشر من صنف واحد لكن الاختلافات بيننا كثيرة ومتعددة في الشكل وفي السمات الشخصية والقدرات والأهم الاختلاف في الرأي، وهذا أي الاختلاف في الرأي يقتضي الحوار.
يقول فولتير: “قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك، إنني أختلف معك في كل كلمة تقولها لكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقول ما تريد”.
يقول علي الوردي: “ليس من العجيب أن يختلف الناس في ميولهم وأذواقهم ولكن بالأحرى العجب أن يتخاصموا من أجل هذا الاختلاف”.
يقول علي حرب: “إن الاختلاف هو الاصل في يقظة الوعي وتجدد الفكر وتطور الحياة.”
نستنتج من الأقوال السابقة استنتاجاً على درجة عالية من الأهمية، بأن الحوار لغة العقل وأداة تفاهم بين العقلاء، فهو: نشاط عقلي ولفظي يقدم المتحاورون الأدلة والحجج والبراهين التي تبرر وجهات نظرهم بحرية تامة من أجل الوصول إلى حل لمشكلة ما، أو توضيح لقضية ما، فالحوار تبادل الآراء حول مفاهيم أو قضايا أو سلوك في جوانب متعددة ومختلفة اجتماعية وفلسفية واقتصادية وسياسية وأخلاقية ودينية وثقافية… الخ.
كل ما في الحياة موضوع للحوار، وقد يكون بين المتفقين أو بين المختلفين فالحوار ضرورة تقتضيها الحياة بشكل عام وركيزة أساسية للتطور والإبداع.
والحوار كمفهوم شأنه شأن المفاهيم الأخرى كالتربية والاقتصاد لابدّ أن يكون له مدخلات ويترتب على ذلك مخرجات ومن خلالها تقيّم نتائج الحوار وأهميته.
ولابدّ من التنويه بأن يشترك مع الحوار اللفظي تعابير الجسد من وجه ويدين وإيماءات ونبرة الصوت وغيرها فهي شكل من أشكال التوصيل والتعبير ولها مدلولاتها المباشرة وغير المباشرة وتكشف أحياناً عن شخصية المتحدث.
والسؤال الذي يفرض نفسه على كل عاقل:
هل الحوار فن؟ أو علم؟ أو فن وعلم في آنٍ معاً؟
يعرف الحوار من حيث أنه فن بأنه فن الاتصال والتواصل مع الآخرين دون التعصّب لرأي معين، وهو من المطالب الأساسية في الحياة؛ لهذا فمن الهام جداً أن يتقنه جميع البشر، من أجل تفادي أي مشاكل أو سوء فهم قد ينتج عن الحوار بطريقة خاطئة، حيث يعتبر عدم اتقان فن الحوار في أحاديث الأشخاص سبباً رئيساً في الكثير من الخلافات
وهذ الفن يقتضي المعرفة بمعانيه وأدواته وأساليبه وآدابه ومقوماته وهذه علم وهو علم أيضاً لأن له مبادئه والعلم بأسبابه ومقوماته ومخرجاته وآدابه التي هي من جهة علم ومن جهة ثانية فن… الخ.
نستنتج بأن الحوار فن وعلم في آنٍ معاً، فكل شخص صفاته وسماته الخاصة المميزة، فمن الأهمية أن تعرف من أنت وإمكانياتك وقدراتك وبنفس الوقت أن تعرف شخصية محاورك وأهم سماته الشخصية والثقافية.. الخ.
ومن الأهمية أن تتقن الحوار بما يتناسب مع الآخر، فإذا أردت أن تنجح في الحوار يجب أن تعرف الأسلوب المناسب للشخص المناسب بالوقت المناسب.
وجميعنا يعرف ويقدر تماماً فوائد الحوار وأهميته حيث تنعكس فوائد الحوار من خلال أهميته، وتتجلى أهميته من خلال فوائده ويمكن أن نلاحظ ذلك بما يلي:
1- تفاعل الخبرات وتناغمها، التي بدونها لا يمكن الانتقال لأفكار جديدة.
2- تنمية التفكير وصقل الشخصية والتي تعتبر الّلبنة الاساسية لتطوير الوعي الفردي والجمعي.
3- إنتاج إفكار جديدة، تعبر عن مرونة التفكير المشترك وديناميكيته.
4- تنشيط الذهن، وإبقاؤه بحالة استنفار ويقظة وهذه من طبيعة العقل الحيوي المتجدد دائما ً
5- يساعد الحوار على التخلص من الأفكار الخاطئة، وهذه ميزة تعزز الموضوعية وتبعدنا عن الذاتية والتعصب لأفكارنا.
6- بالحوار كل محاور يصحح ويعدل ويكمل أفكاره وأفكار المحاور الآخر وبذلك يساعد بالوصول للحقيقة.
7- يبعد الشخص عن الغرور والذاتية والأنانية، حيث تصبح هذه بدورها عاملاً أساسياً لاستمرار الحوار والتواصل.
8- تناغم الأفكار والتواصل المعرفي يهدئ النفس ويعمق التواصل الإنساني.
كثير من الحوارات غيرت أفكاراً، وبتطور هذه الأفكار التي واكبت تطور الحياة وتقدم الإنسان، فأقامت حضارات ودول، وكم من حوار أنقذ نفوساً من الهلاك، ونقلها من حالة لحالة أرقى، وكم من حوار كان سبباً في تغيير عادات وتقاليد وأعراف، وغرس ثقافات جديدة ساهمت بالتطور والارتقاء، ولخطورة الحوار وأهميته في حياتنا، يجب علينا أن نتعلمه ونتقنه جيداً، ونتعود على إتقانه، فهو ليس مجرد تبادل الكلمات، وتناقل العبارات، إنه فن بما تحمله الكلمة من معان وعلم، ولا يوجد حوار منتج إلا إذا تناغمت الأفكار لتولد فكرة جديدة ناضجة أكثر من الأفكار التي كونتها.
وقد يكون لما وصلنا من سقراط مثلاً يمكن الاستفادة منه فشكل أسلوب الحوار عنده ومنهجه نقلة نوعية في تطور الوعي الإنساني بشكل عام والفلسفي بشكل خاص وقد أسس له الفيلسوف سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد وتابعه تلميذه أفلاطون وبذلك بدأ الانسان الذي يفكر يشعر بأهمية الحوار في توالد الأفكار والوصول للحقيقة، يكمن سر الفعالية لدى سقراط في أنه لم يكن يحاول تعليم الناس، بل على العكس، كان يعطي الانطباع بأنه يريد أن يتعلم من محدثه. لم يكن يقدم نفسه كأستاذ يعرف ويعلم.. بل على العكس كان يناقش ويجادل ليأخذ إجابات وقناعات الآخرين دون إملاء منه، هكذا تتمثل مهمة سقراط في توليد العقول أفكاراً صحيحة.
إذن فالمعرفة الحقيقية لا تأتي إلا من داخل كل منا لكن من خلال تمازج وتناغم وتبادل أفكاري مع أفكار الآخرين وهذا لا يتم بالفراغ بل من خلال الحوار.
بإمكان كل الناس التوصل إلى الحقائق الفلسفية، إذا قبلوا أن يستعملوا عقولهم، لكن دون أن يلغوا عقول الآخرين، فعندما يبدأ الإنسان بالتفكير، يجد أجوبته داخل نفسه لكنها غير كافية، فلابدّ من الاستفادة من عقول الآخرين وأفكارهم.
لا بأس التذكير هنا بقول سقراط:
“تشبه أثينا حصاناً كسولاً، وأنا أشبه ذبابة تحاول إيقاظها (أي أثينا) وإبقائها حية”
وسمي ظهور الأفكار الجديدة ولادة، ليؤكد لنا بأنها صعبة وبها آلام كالمخاض الذي ينتج عنه وبعده مولوداً جديداً وبذلك تستمر الحياة وقد تأكد أثر ذلك بالوعي الفلسفي بشكل عام فهذا ديكارت بعد أكثر من أفي عام يقول أنا أشك والشك تفكير فأنا أفكر إذاً أنا موجود.
حتى يكون الحوار مثمراً ومنتجاً يجب أن يستند على الاسس والمبادئ الآتية، أي لابد مما يسمى آداب الحوار:
1- أن يكون الحوار موضوعياً، أي حيادياً تجاه شخصية المحاور، يركز على الموضوع وليس على الشخص، وذلك بتحديد موضوع الحوار، ويدور الحوار حول مسألة محددة، باختصار موضوع الحوار الأفكار وليس الاشخاص.
2- أن يكون الحوار منهجياً: لابد لكل حوار من مرجعية، أي أن نحدد الأسس التي نبني عليها حوارنا، وأن ننطلق في الحوار بتوجه مقصود وتحديد المفاهيم والاتفاق عليها قبل البدء به لأنها نقطة ارتكاز أساسية فيه، واستمراره وما يترتب عليها من نتائج، فمن أكثر الأخطاء شيوعاً في الحوار، أننا نبدؤه حول مسألة ما، ونحن لم نتفق بعد على المفاهيم المتعلقة بموضوعه، فقد نكون متفقين حول مسألة ما، لكننا لم نأخذ فرصتنا لنتبيّن ذلك، وهذا ما يجعلنا نسير في خطين متوازيين لا يلتقيان أبداً، فكلما اختلفت المفاهيم والمصطلحات فيما بيننا اتسعت الهوة التي تفصلنا، كما أن الحوار يستلزم الاتفاق في نقطة ما ولو بعد حين، يجب أن يكون الحوار هادفاً، فأي حوار ينبغي أن يكون له هدف ما، ليس لمجرد الفضفضة وليس استعراضاً لمهارات الحوار وفنون الإقناع، أو فخراً بالمعلومات، فالحوار الهادف، من أهم أهدافه البحث عن الحقيقة وهنا سيكون حواراً سهلاً وسلساً جداً ويتمتع فيه الطرفان بمرونة فائقة وتواضع، مستندين على استخدام أدوات الحوار ووسائله بشكل علمي.
3- البحث في الوقائع أو الأفكار كما هي قبل التأويل والاستنتاج، وعدم افتراض سوء النية، فليكن المحاور متفائلاً بعيداً عن سوء الظن، كي لا يقع في التأويل والاستنتاج الخاطئ، وهذا يسير مع الحوار منذ بدايته ومع استمراره وحتى نهايته، فترجمة ما يصلني من خلال سوء الظن مفسدة للحوار.
4- الصدق في القول والسلوك، والابتعاد عن المخادعة، من المقومات الهامة لإنجاح الحوار، فالكاذب حواره كالحرث في الماء، لا يبقى ولا يفيد، ولا يثمر، وإن استطاع خداع أحد لفترة ما بحواره الكاذب هذا، فإنه سينكشف ولو بعد حين، وعندها سيفقد كل مصداقية لدى الآخرين، (على رأي المثل الشعبي “حبل الكذب قصير”).
5- أن يقوم الحوار على الاحترام المتبادل فيحترم فيه كل طرف الطرف الآخر ولا يتعالى عليه، فالتواضع من مقومات الحوار الناجح.
لكي يكون حوارك مؤثراً في الطرف الآخر، ابدأ الحوار بالأفكار المشتركة بينك وبينه، بالنقاط المتوافق عليها ولا تقفز إلى ما هو مختلف فيه ولا تجعله أولاً، فالتوافق في بعض الأمور يجعل الموافقة على الأمور الأخرى أيسر وأسهل.
6- اعتمد مبدأ النسبية، وتحويل قول الإمام الشافعي “قولي (رأي) صواب يحتمل الخطأ وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب” إلى: (قولي خطأ يحتمل الصواب وقول غيري صواب يحتمل الخطأ)، ولا تنس أن للحقيقة عدة وجوه، اجعل حوارك مرنا وتقبل رأى الآخر.
7- على المحاور أن يكون مدركاً لغة الآخرين وهادئاً، من أعظم النقاط التي يجب أن نعيها في الحوار لغة الآخرين ومصطلحاتهم، فأحياناً يحدث صدام بين اثنين من المتحاورين نتيجة لعدم فهم طريقة كل منهما في استخدام الألفاظ، ولابدّ لك من الانتباه لنبرة صوتك، أن تكون هادئة تملؤها المحبة والود فالنبرة الانفعالية الجافة تجعل الآخر يظن بك ما لا تقصده، فرفع الصوت في الحوار يثير المشاعر السلبية ويغلق أبواب الفهم والتفاعل البناء.
8- الوضوح والترتيب من مميزات وشروط الحوار الناجح، الوضوح في الأفكار وفي الكلام وترتيب الأفكار والتسلسل في عرضها والانتقال من البسيط إلى المعقد ومن السهل إلى الصعب، فمن أعظم الطرق التي تجعل الحوار مثمراً أن يكون كلامك واضحاً، تنطق الحروف بوضوح وثقة، وتمنح محاورك فرصة استيعاب وفهم كلامك وفرصة ترتيب أفكاره والتعبير عنها بدقة. فترتيب الأفكار والتسلسل في عرضها يؤدى إلى الإقناع بسهولة، لأنه يدل على وعي الفكرة ونضوجها عند المحاور كما يؤدى إلى حسن تصور الموقف، لذلك لا تدخل نقاشاً أو حواراً لمجرد الرغبة في الحوار فالمحاور الجيد يكتشف جهلك بسهولة، لذلك اجتهد قدر استطاعتك في أن تكون محيطاً بما تتكلم عنه وأن تعرف عنه كل الدقائق واستخدم الأسئلة التي تزودك بما ينقصك من معلومات وحقائق.
9 – الإصغاء إلى الآخرين: وهو فن قلَّ من يجيده، فأكثرنا يجيد الحديث أكثر من الاستماع، فلابد أن تستمع جيداً للآخرين، وأن تستوعب ما يقوله الآخرون، فاجعل أذنك للمحدث، وأقبل عليه بتركيز وانتباه ولا تنس أن العين مغرفة الكلام، وأن لك لساناً واحداً وأذنان اثنتان حتى تستمع أكثر مما تتكلم، واجعل ابتسامتك أثناء الحوار تفتح قنوات وقنوات من التواصل العقلي بينك وبين الطرف الآخر وباحترام وود، انتقد بوِد ولا تغلق الباب أمام محاورك، كن بسيطاً وانزل من برجك العاجي لتكسب ثقة محاورك، وميّز بين الحوار والجدل فأنت محاور جيد ولست مجادلاً.
10- التعصب بكل أشكاله يترتب عليه نتائج خطيرة وهدامة وأخطر أشكال التعصب هو التعصب الفكري، لذلك نجاح الحوار بأن تحاور بعيداً عن التعصب لفكرتك، فأنت لا تملك الحقيقة كاملة ولست وحدك من يملك جزءاً من الحقيقة.
بنظرة تأملية لما سبق يمكن أن نستنتج “بأن آداب الحوار تتوزع على ثلاث مبادئ أساسية أو أقسام أساسية القسم الأول يتعلق بالآداب الأخلاقية والقسم الثاني يتعلق بالآداب العلمية والقسم الثالث يتعلق بالآداب الاجتماعية.
الحوار ليس مفهوماً جامداً ومستقلاً منفرداً بذاته بل هو مفهوم متطور ويرتبط بعدد كبير من المفاهيم الأخرى بعلاقة جدلية تكاملية، أي يرتبط مفهوم الحوار بمفاهيم ومصطلحات كثيرة تعطيه قيمته ويعطيها مدلولها الحقيقي وبعض المفاهيم تتعلق به كتعلق القطار بالسكة.