fbpx

الحرب والكهنوت.. واشنطن وتل أبيب والردة نحو أصولية سوداء

0 247

ولا تزال هذه العاصفة الرهيبة تأتيك كل يوم بالمذهل من الأخبار والمذهل من المواقف، ولا أعتقد ان حدثاً في العالم كشف نفاق السياسة الأوروبية والأمريكية أكثر من هذا الحدث، فقد اصطف الحكام الأوربيون والأمريكيون طابوراً لئيماً على بوابة المحتل يسابقونه إلى التفجع والنواح، ويباركون كل جرائمه وجنونه، ويرددون دون وعي ولا قلب أن إسرائيل معذورة في كل جرائمها وأنهم لن يطلبوا منها وقف الحرب لأن وقف الحرب هو استسلام للإرهاب وأن علينا أن تضرب بلا هوادة، وأن سقوط خمسة عشر ألف شهيد ليس إلا تفصيلاً صغيراً في مواجهة الإرهاب!.

ولكن أكثر المواقف فجوراً كانت تلك التي تعتصم بالكهنوت وتعيد السردية الأسطورية للعهد القديم في توجيه المواقف السياسية، ووقف بنيامين نتنياهو علناً أمام جيشه ليقول إنكم تستأنفون جهاد النبي أشعيا وإن عليكم أن تستكملونه إلى النهاية..

وعلى الفور رجعت كما رجع الملايين مثلي إلى نصوص العهد القديم لفهم رسالة أشعيا ومقاصده وكفاحه، وبدون أي تكلف تستطيع الوصول إلى مقاصد القتال الحقيقية للجيش الإسرائيلي كما شرحها سفر أشعيا:

15 كُلُّ مَنْ وُجِدَ يُطْعَنُ، وَكُلُّ مَنِ انْحَاشَ يَسْقُطُ بِالسَّيْفِ.

16  وَتُحَطَّمُ أَطْفَالُهُمْ أَمَامَ عُيُونِهِمْ، وَتُنْهَبُ بُيُوتُهُمْ وَتُفْضَحُ نِسَاؤُهُمْ….

30 وَلْوِلْ أَيُّهَا الْبَابُ. اصْرُخِي أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ. قَدْ ذَابَ جَمِيعُكِ يَا فِلِسْطِينُ.

وهكذا فإن رئيس الدولة التي تزعم أنها واحة الديمقراطية والعلمانية في الشرق الأوسط يختار مرجعية السياسات في دولته البائسة نصوصاً تلمودية من العهد القديم تكفر بالإنسان وتدعو مباشرة إلى سفك الدم في غمار حروب دينية لا علاقة لها بالعدالة ولا الحرية ولا الكرامة ولا حقوق الإنسان!.

ولكن الأشد غرابة وتوحشاً هو ما قدمه رئيس الكونغرس الأمريكي مايك جونسون فهذا الرئيس الجديد ينزل إلى ملعب السياسة بالصورة التي ينزل فيها لاعبوا الاحتياط في الدقائق الأخيرة من المباراة ويندفع دون تحفظ ليعلن في عاصمة الديمقراطات العالمية وأكثر دول العالم حديثاً عن العلمانية والديمقراطية ليعلن بوضوح النص التالي الذي سمعه مئات الملايين من سكان هذا الكوكب:

كمسيحي… فإنني أقف مع شعب إسرائيل كما أمرني الكتاب المقدس، وهذه مسألة دينية محسومة، ولا نحتاج لأي اجتهاد لندرك الحق والباطل فهو تماما مع شعب الله المختار في إسرائيل!.

لم أصدق هذه التصريحات حتى استمعت إليها بالنص والصورة في خطابها الأصلي وتوليت بنفسي ترجمة النص ولكنني أصبت الفعل بالصدمة فقد ثبت أن عاصمة الديمقراطيات لا تزال تقاد بخطاب كهنوتي أصولي يعيش في مقابر التاريخ ولكنه يحكم عواصم الديمقراطية الكبيرة.

لم يقل رئيس الكونغرس حرفاً واحداً عن الطفولة والأبرياء والعدالة وحقوق الإنسان، فهذه المصطلحات فيما يبدو تخص الإنسان الأمريكي ولكنها تغدو بلا معنى حين يتعلق الأمر بدول العالم الضعيف، وبدلاً من بناء مواقفه السياسية على شرعة حقوق الإنسان فإنه لا يخجل أن يصرح بأنه يبنيها تماماً على نصوص العهد القديم.

لطالما اشتكينا من الخطاب الإسلامي الأصولي الذي يعيد إنتاج النصوص القديمة فيحكم بها على واقع الحال، ويعيد إنتاج التصورات الجهادية التي كانت شائعة في العصور الوسطى ليعتبرها مقياساً اعتبارياً لما يجري في عالم اليوم.. وكتبنا ألف مقال ضد فتاوى العنف المنسوبة إلى ابن تيمية وابن رجب وابن كثير، وكنا ننادي بوقف تحكيم الماضي في الحاضر وأن سبب تخلفنا أننا لا نزال نحتكم إلى الماضي فيما هو من قضايا الحاضر.

ولكن أكثر ما يعود إليه الأصوليون في الإسلام فتاوى عمرها ألف عام أما النص التوراتي الذي يعيدنا إليه البيت الأبيض والكونغرس الأسود والكنيست الإسرائيلي فعمره ثلاثة آلاف عام، وهو نص همجي همشري يعود إلى عصور التوحش الأولى قبل أن يقوم أي شكل من الدولة الحديثة أو يظهر أي إعلان لحقوق الإنسان!.

هل بات علينا أن نقرأ من جديد الأوهام التوراتية الأسطورية المؤسسة لدولة إسرائيل كما سردها روجيه غارودي قبل نصف قرن؟ وهل عادت الحضارة الحديثة بالفعل إلى كهوفها المظلمة في العصور الوسطى تنتج مزيداً من الكراهية والبغضاء والتحاقد بين الشعوب؟.

إنها محنة للعقل واختبار للضمير أن يتم استعمال خطاب فاجر كهذا من القوم الذين يتحدثون كل يوم عن فصل الدين عن الدولة وعن وجوب الاحتكام إلى الدستور والقانون وإعلان حقوق الإنسان…

إنها بالنسبة لي أقسى لحظات الاعتراف الذي لم أكن أتصور أن أقوله يوماً ما… أن الأمم الغالبة الغاشمة لا تزال تعبد القوة وتعيش في الكهنوت، وأن إعلان حقوق الإنسان بات في السياسات الأمريكية لوناً من الروايات الأسطورية التي يكتبها أدباء الخيال والخرافة.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني