الحرب العدوانية على غزّة، وملامح تفكك حلقات محور المقاومة! (2)
ثالثاً: في السياق الإسرائيلي/الفلسطيني:
يمكن ملاحظة وجود استراتيجية إسرائيل طويلة المدى – تعززت خطوات تنفيذها بموازاة مسار السلام خلال التسعينات، ومن اجل تفشيل اتفاقات أوسلو الأولى والثانية، 93/95، وما حازت عليه من تأييد عربي وعالمي لمسار حلّ سياسي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يقوم على مبدأ الدولتين، وعلى قاعدة شرعة حقوق الشعوب والقانون الدولي، لتشمل الدولة الفلسطينية الموعودة الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزّة، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية – تركّزت على خلق شروط فصل جغرافي وسياسي بين مرتكزات الدولة الفلسطينية، بما يمنع وحدة الجغرافيا، وتوفّر الموارد الاقتصادية، وانسجام ديموغرافي، وأهمّ مقوّمات السيادة؛ السلطة الوطنية.
من نافل القول إنّه في سعي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتحقيق تلك الأهداف قد حصلت على تجاهل الدول الضامنة لاتفاق أوسلو، ودول مجلس الأمن، الذي ارتكزت على قراراته، 224-338، تلك الاتفاقات، وواجهت مقاومة خلّبيّة، ومشاريع وهمية من الأنظمة العربية. علاوة على ذلك، كانت قد حصلت على دعم أمريكي غير محدود لسياسات زرع المزيد من المستوطنات في الضفة، وتبرير قضمها، واحتلال القدس الشرقية؛ وقد كان أبرزها قانون تشريع القدس 1995، وسياسات ترامب التنفيذيّة، التي كرّست قرار الكونغرس باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ونقلت السفارة الأمريكية اليها.[1]
عامل آخر داخلي، فلسطيني، لا يقلّ أهميّة في توضيح طبيعة موقف سلطة الاحتلال، وما تحقق من تراكمات لصالح مشروعها.
في العام 1987، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفي ظروف انتقال مركز النضال الوطني الفلسطيني إلى الداخل وبناء مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، أتى صعود الإسلام السياسي بجانحيه الإخواني، الحمساوي، والجهادي، إلى مسرح الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وشكّل تغيّراً خطيراً في طبيعة الصراع، عندما حوّلته أيديولوجيا ودعاية حماس والجهاد من واقع كونه صراعاً وطنياً وقومياً تحررياً، يتوافق مع شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي، في مواجهة سلطة احتلال عنصريّة، إلى صراع عقائدي، ديني ضدّ اليهود، بما يبرر دعاية إسرائيل التي تقول إنّها في حالة خطر كمجموعة بشرية، دينية، وليس كسلطة احتلال، وبالتالي هي في حالة حرب مصيرية، دفاعاً عن النفس، ما يضفي طابعاً إنسانياً على المساعدات التي تتلقاها سلطة الاحتلال.
ضمن السياقات السابقة، نفّذت إسرائيل انسحاباً تكتيكياً ناجحاً من قطاع غزة 2005، تاركة ثاني أكبر تجمّع للشعب الفلسطيني وأرضه في انتظار قدره المجهول، الذي ستحدده نتائج الصراع بين مشروعي حماس الإسلامي والسلطة الوطني، وهي على إدراك بطبيعة الدعم الإقليمي الذي يحظى به مشروع حماس!.
فازت حماس بانتخابات نيابة في 2006، أوصلتها إلى درجة من القوّة جعلتها تستفرد بالسلطة بانقلاب عسكري، أخرج السلطة الوطنية كلياً من غزة في حزيران 2007، لصالح سلطة إسلامية، ولتصبح فلسطين مقسّمة واقعياً بين قيادتين متصارعتين؛ سلطة وطنية في الضّفة، يصارعها على النفوذ حركتي الجهاد وحماس، وسلطة إخوانية في غزة، تنافسها حركة الجهاد الإسلامي، مدمّرة بذاك الإنجاز أهمّ مقومات قيام دولة فلسطينية، وحدة الجغرافيا والسلطة.
علاوة على ذلك، كان ارتهان السلطتين إلى مشاريع القوى الخارجية أكثر تدميراً لمقوّمات قيام الدولة، في حين تطلّب قيام السلطة الفلسطينية في الضفة علاقات خاصّة مع إسرائيل، وجدت قيادات حماس والجهاد ضالّتيهما في سياسات القوى الإقليمية التي تنافس المشروع الصهيوني على مناطق النفوذ، والساعية لتجيير ورقتي حماس والجهاد في سياق صراعات السيطرة الإقليمية، فتعزّزت علاقات جهاديّة مع قيادة وأذرع الحرس الثوري الإيراني، وحصلت على مساعدات سخيّة من السعودية وتركيا، وإمارة قطر العظمى التي برعت قيادتها في استثمار الثروة الوطنية لإنجاح أدوارها الوظيفيّة لصالح الجميع.
من هنا نفهم مصادر وطبيعة الدعم المالي والعسكري والإعلامي الذي تتلقاه الحركتان؛ وقد ساعدت علاقات حماس الخاصّة مع بعض الأنظمة العربية، في كونها امتداداً مباشراً لحركة الإخوان المسلمين الإقليمية، في تعزيز دورها القيادي في مشروع حكم غزّة.
رابعاً: في مصالح حماس، ومأزق موقفها المقاوم:[2]
إذا كان من مصلحة إسرائيل تعزيز سلطة حماس الإسلامية على قطاع غزة – في تناسب طردي مع تراجعها عن نهج المقاومة وتحوّلها إلى سلطة نظام حكم، مواجه للسلطة الوطنية، من جهة، ومنافس لحركة الجهاد الإسلامي، من جهة ثانية – فإنّ من مصلحة سلطة حماس، التي يتطلّع قادتها لتأبيد حكم الحركة، التوافق مع مسار مشروع إسرائيل الخاص برؤيتها للحل السياسي، والسير على طريق التطبيع مع مشاريعها الاقتصادية.
في هذا السياق تصبّ سياسات الجزرة التي تمارسها إسرائيل لتعزيز مصادر موارد الحركة المالية، الداخلية والإقليمية، التي تتراكم من خلال علاقات خاصة مع مصر، ودعم مشاريع اقتصادية من قبل قطر وغيرها، في تكامل مع جهود القيادات السياسية والعسكرية والدبلوماسية الإسرائيلية للاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، من خلال محاولة تقويض بنيتها التحتية في الضفة، وتدمير قواعدها وقياداتها ومقاتليها في القطاع، وقد حقّقت نجاحاً كبيراً، لتقاطع هذه الأهداف مع مصالح السلطتين الفلسطينيتين في القطاع وغزة، ومع تصاعد حالة الصراع الإقليمي ضدّ إيران، الداعم الرئيسي لحركة الجهاد الإسلامي.
تفسّر تلك العوامل عدم وجود مصلحة لحماس، وعدم إظهارها اهتماماً بالمشاركة في الرد على الضربات العسكرية الإسرائيلية، خشية أن تضع عراقيل أمام صيرورة التطبيع، خاصّة الاتفاقيات التي توصّلت إليها مع إسرائيل على زيادة عدد تصاريح العمل الممنوحة إلى فلسطينيين من غزة للعمل داخل إسرائيل وخطط إنشاء البُنى التحتية الجديدة، التي تموّلها قطر، وربّما اعتقادها أنّ النخالة قد تعرّض لضغوط، أو حصل على دعم خاص، لتحويل العدوان الإٍسرائيلي إلى حرب شاملة على التخوم الإسرائيلية، تأمل إيران أن تصبّ نتائجها في خدمة جهودها لفرض شروطها على طاولة مفاوضات الملف النووي، التي تتعثّر أمام إصرار المرشد الأعلى على رفع العقوبات عن الحرس الثوري، الذي يخضع لسلطته المباشرة.
ليست خيارات حماس سهلة، إذا اختارت الانضمام إلى القتال، فسيتعين على إسرائيل إلغاء جميع الامتيازات الممنوحة لحماس والقطاع، ورفض ما يقدّم لها من دعم اقتصادي، على أساس أن بنيتها لا تسمح لها بالتحوّل إلى جهاز حكومي، وبالتالي أداء دور استقرار طويل المدى.
إذا نجحت حماس في خيار الانصياع للتفاهمات بشأن استمرار التهدئة، تكون قد خطت على طريق التحوّل إلى سلطة، على غرار منظمة التحرير؛ ويكون سلوكها مؤشّراً لما سيواجه محور المقاومة من تحدّيات خطيرة.
بكل الأحوال، يساعد حماس على سلوك هذا الطريق نجاح جهود إسرائيل من أجل إنهاء سريع للقتال، وبفضل وساطة مصرية – قطرية.
[1]– في أخطر محطّاتها، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطاب ألقاه مساء الأربعاء، 6/12/2017 الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل عاصمة بلادها من تل أبيب، في قرار تاريخي يطوي صفحة عقود من مماطلة الرؤساء الأمريكان في تنفيذ تشريع سفارة القدس لعام 1995 (بالإنجليزية: Jerusalem Embassy Act of 1995)، الذي أقرّه الكونغرس لأمريكي في دورته رقم 104 في 23 تشرين الأول، قبل أشهر من توقيع أتفاق أوسلو 2 في واشنطن، 13 كانون الأول، ويلغي مرجعيته الدولية، القرار 242، ويُعبّر بصراحة عن رغبة الولايات المتحدة بنقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس بدلاً من تل أبيب، والاعتراف بالقدس كعاصمة للدولة العبريّة، وذلك في موعد أقصاه أيار، 1999..
وأكد ترامب في كلمته من البيت الأبيض: قررت أنّه آن الأوان للاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل، معتبرا موقفه تعبيرا عن مقاربة جديدة لحلّ النزاع العربي – الإسرائيلي.
[2]– صحيح أنّه بعد صدمة الضربة الأولى، تعافى الجهاد الإسلامي في فلسطين واستأنف إطلاق مئات الصواريخ (حوالي 600 حتى الآن، تم اعتراض معظمها من قبل الدفاع الجوي للجيش الإسرائيلي) وإطلاق قذائف الهاون من القطاع على إسرائيل. حتى الآن، استهدفت النيران بشكل أساسي التجمعات السكانية الإسرائيلية بالقرب من قطاع غزة، على الرغم من وجود محاولات أيضًا لإطلاق صواريخ باتجاه وسط إسرائيل ومنطقة تل أبيب، وفي وقت مبكر من صباح يوم الأحد 7 أغسطس، على القدس أيضاً، حيث كانت هناك مجموعات من المدنيين اليهود في طريقهم إلى جبل الهيكل للاحتفال بصوم تيشا بآف (الذي يحيي ذكرى تدمير المعبدين اليهوديين)، رداً على ذلك، واصل الجيش الإسرائيلي قصفه لأهداف الجهاد الإسلامي في القطاع، مع التركيز على الاغتيال المستهدف لكبار قادة الجهاد الإسلامي في فلسطين (مثل خالد منصور، قائد منطقة جنوب غزة)، والهجمات على مواقع إنتاج الصواريخ وقذائف الهاون، ومراكز القيادة، ومخزونات الأسلحة، ما ساعد الجيش الإسرائيلي أيضاً في تحديد مواقع المجموعات التي تطلق الصواريخ على إسرائيل وتحييدها.
وهو مأزق إسرائيلي، أيضاً، بينما تحارب إسرائيل الجهاد الإسلامي، فإنّ عوامل نجاح معركتها ضدّ الحركة لا تقتصر على الجانب الحربي.
علاوة على ذلك، نجاح استراتيجية إسرائيل لتحييد حركة الجهاد يعتمد أيضاً على قدرتها، وجدّيتها في توفير عوامل التحسّن الملحوظ في الوضع الاقتصادي والتوظيفي في القطاع، وهي ترتبط مباشرة بسلطة حماس، وتعزيز أسباب سيطرتها.
حسب المنطق الإسرائيلي، إن الارتياح الاقتصادي يقوي حماس بالفعل، وبالتالي يصبح حافزاً لدفع حماس إلى كبح جماح العناصر الإرهابية في القطاع. صحيح أنّ حماس لم تشارك في القتال في هذه الجولة، لكنها لا تمارس حتّى اللحظة مسؤوليتها في منع تحضيرات الجهاد الإسلامي في فلسطين لضرب إسرائيل، ليبقى الهاجس الإٍسرائيلي: هل ستصل سياسيات الجزرة إلى مرحلة من تشابك المصالح مع حماس يجعلها تمارس ضغوطاً على الجهاد الإسلامي لوقف التصعيد في القطاع، كما تفعل السلطة في الضفة.