fbpx

الحب في زمن العزلة وتقانات التواصل الافتراضي

0 122

تحضر رائعتا غابرييل غارسيا ماركيز، إحداهما: الحب في زمن الكوليرا والثانية مائة عام من العزلة، بقوة، في هذه الأيام العصيبة التي نمرُّ بها. الأولى منهما لأنّ كاتبها دعا المركبة التي استقلها العاشقان السبعينيان: فلورنتينو وفيرمينا تشقُّ عباب البحر في رحلة طويلة، بعد ادعاء العاشق الذي تمكن بعد عقود من إعادة إشعال عواطف حبيبته التي ترملت، بأنهما مصابان بالكوليرا، لإطالة أمد الرحلة، وليختلي بحبيبته، ويعيش معها حباً من نوع آخر. إنه “حب ما بعد الحب”، وهو مصطلح جدُّ مهم يمكن الاشتغال عليه في معجم الحب، أما استحضار رواية ماركيز الثانية المشار إليها، أعلاه، فهو لأول وهلة بسبب مفردة “العزلة” في آخر عنوانها، وهو نفسه يحيل إلى عزلة مشابهة لما نعيشه هذه الأيام العصيبة. وحين أشير إلى هاتين الروايتين، من ضمن روايات كثيرة تناولت زمن الأوبئة والعزلات التي تعرضت لها المجتمعات، من قبل، وجاءت جائحة كورونا لتؤكد أن ثمة فيروسات وكوارث متربصة ببني البشر، ولابدَّ من الاستعداد لمواجهتها.

ما إن نفخ في بوق الخطر الداعي إلى العزلة، بسبب انتشار وباء كورونا، في نسخته الجديدة كوفيد 19، حتى ارتسمت حدود كثيرة بين التكوينات المجتمعية، على نطاق عالمي، وكان من بين ذلك الحدود بين الفرد والآخر، حتى ضمن الأسرة، بل بين الفرد ونفسه، إذ بات المرء يخشى من يديه، قدميه، أنفه، فمه، عينيه، شعره، لباسه، طعامه، أهله، من التقاط الفيروس الذي من شأنه أن يجهز على حياته، ومن حوله. مثل هذه الحدود، ارتسمت بين الزوج والزوجة، بين العاشق وحبيبته، إن من جهة أحد الطرفين، أو من جهة أحدهما، أو من جهة الرقابة الاجتماعية والرسمية، إذ تمَّ عطب، بل شلّ الحياة برمتها، ومن بينها الحب، وما أكثر تصريحات بعض الرجال والنساء بانعكاس آثار –فرمانات – فيروس كورونا عليهم، لربما، في بعض الأحيان، كنتيجة للجو العام، وليس نتيجة التحسب من الشريك الحياتي، الذي يواصل العزلة مع شريكه الآخر، وإن راجت مقولات كثيرة، من قبل أبعاض الساخرين الذين رأوا أن التناسل سيكثر، بسبب الوقت الهائل الذي منحته ظروف العزل الأسري للمجتمع، لأن مثل هذا الحكم، لا يعمّم، ولا يصمد، في المختبر العام، لأن هناك في المقابل، من ألمح، من بين أمثال هؤلاء الساخرين، إلى إمكان تفاقم المشاكل الاجتماعية، بين الأزواج، في بيوتهم، وذلك بسبب الهامش نفسه، وهو ما لا يعمم ولا يصمد بدوره أمام التحليل العلمي الدقيق، لأن التقارب، والتواشج، الزوجيين، قد يعززان، ويحلان الكثير من المشاكل العالقة، إلا إذا كان هناك ثمَّة خلل من نوع آخر، عصي على أيِّ حلٍّ!

لقد عزَّزت العزلة ذلك الحبَّ الافتراضيَّ، على وجه الخصوص، وأسست لمرحلة مقبلة، على الصعيد العلائقي العاطفي، الوجداني، خارج حدود الأسرة، في إطار فائض الوقت المتاح، وما تخلقه العزلة من نوستالجيا تجاه من هو بعيد عادة، بعيد المنال، وقد لعبت شبكات التواصل الاجتماعي، والهواتف، دورها الكبير في هذا المجال، بعد موات وسيلة التواصل التاريخية القديمة: الرسالة الورقية، الي جاءت على أنقاض رسائل الإشارات، والإيماءات، وحتى بعض الأصوات، بين العشاق، ضمن جغرافيا محدودة، إلا أن البريد الإلكتروني، ومن ثم الماسنجر. السكايب، وغيره من الأدوات الكثيرة كانت قد أجهزت على أساليب التواصل البدائية، وإن كانت هذه الوسائل تتطور أكثر، لنكون أمام الواتس آب، وماسنجر الفيس.. إلخ، إلى الدرجة التي قد نتوهم لوهلة، في حضرة هذه الوسائل والأدوات أنه يمكن للتواصل الافتراضي أن يتحول إلى فيزيائي، بكبسة زر، بالرغم من احتمال وجود آلاف الكيلومترات بين المتخاطبين، عبر تقنيات التواصل ما بعد الحداثي، وأحياناً، مجرد وجود جدار عازل، بدلالاته، ومعانيه المتشعبة!

وإذا كنا قد تحدثنا عن أهمية دور وسائل التواصل الاجتماعي، في فكِّ العزلة، عن الفرد، في زمن انتشار الوباء، وهو المستهدف في إمحاء أثره، كما هو نفسه بطل العزلة، لاسيما على صعيد تحقيق الحاجة العاطفية من خلال هذه الوسائل، إذا بنيت العلاقات على أسس صحيحة، لا من خلال الابتذال الذي يسرطن المشهد، ويتم تسويق الجنس عبره، بثمن بخس، كبضاعة تجارية رابحة أو خاسرة، واستغلال المرأة، وتسليعها، ومن دون نجاة الذكر، في اللعبة الرائجة، لنرى – في التالي – أن هذه التقنيات باتت تواصل الرق، والعبودية، في هذه المرحلة التي خطا خلالها العلم، ليصل إلى مرحلة ما بعد حداثيته، ناهيك عن أن مطلب تحرر المرأة قطع أشواطاً متقدمة، وما عاد في المستطاع قمعها، في ظل سقوط التسلط الذكوري، وهو كما أسلفت ليحتاج إلى مبحث آخر، ليس هنا مكانه!

إن هامش العزلة قد هيأ – بحق – مناخات جدّ مهمة، ممكنة الاستثمار الصحيح، في تلبية الحاجة الروحية لطرفي معادلة الحياة: الذكر والأنثى، من خلال توافر هامش فائض من الوقت، أو الزمن، وذلك عبر خلق فضاء خاص يمكن لكل منهما العودة خلاله إلى أسئلته الذاتية، أسئلته الجانبية، الملحة، على نحو عميق، والانصراف للتفكير لتناول عالمه الداخلي، بجرأة أكبر، في ظل التحرر من أية بوتقة شاغلة: العمل، المدرسة، المعهد، الجامعة، وهو بدوره جدّ ضروري، لأن من شأن الزمن الهائل المتاح، أن ينعكس على نحو سلبي، على أي منهما، في ظل غياب الشاغل  الروحي الحقيقي. 

ثمة كمون جنسي، في الذات البشرية، وإن كان كثيرون يريدون تناول هذا الجانب – مفلتراً – موارباً، عبر استخدام لغة خاضعة للرقيب الذي يكبح الخوض المباشر، في هذه الموضوعة، إلا أنه لا يمكن الحديث عن زمن العزلة الذي استمرَّ ويستمرُّ منذ أسابيع، لنتناول عالم هذه العزلة، وكأننا أمام مجتمع مرهبن، ملائكي، بعيد عن الطبيعة البشرية التي منحنا إياها، كجزء من حالة الخلق. هذا الكمون، لا يمكن النظر إليه، وهو ضمن شرنقته، لأنه ليس ببعيد البتة عن شبكة العواطف والمشاعر والأحاسيس التي تتحكم به. تؤثر فيه، وقد تؤدي إلى انفجاره، وانعكاس ذلك في أذى الذات والآخر.

بالرغم، من استعراضنا للجانبين: الإيجابي والسلبي، لهيمنة شبكات التواصل الاجتماعي على حيواتنا، إلا أنها لعبت دوراً جد َّ كبير في – زمن العزلة – ومن بين ذلك تعزيز أواصر العلاقات، ومن بين ذلك تكريس الحب، في لحظة تهيئة ظروف ولادته. خلقه، في ظلِّ الحاجة إلى الآخر، خارج المعتزل. المحجر، وإمكان التأسيس له، لأنه أحد أهم العوامل التي تمكن طَرَفيهِ لمواجهة تحديات العزل، عبر تلبية الحاجة الرُّوحية، في التواصل، والوصول إلى صياغات التأسيس لحالة حب ناجحة، فيما لو توفرت دعامات نجاحه، من خلال تواؤم، وانسجام، ركنيه الرئيسين، وبهذا فإن إمكان إقامة علاقة حب، مثمرة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي جد ممكنة، بالرغم من الكثير من الحالات العابرة، أو الفاشلة. هذه الحالات التي تعاني من خلل لدى طرف من طرفيها، أو لدى كليهما، لاسيما من قبل من يرى في وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أداة، لإضاعة الوقت والتسلية!

يخيل إلي، أحياناً، لو أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت متوفرة في زمن كتابة – الحبِّ في زمن الكوليرا – لكان بطلا الرواية “فلورنتينو وفيرمينا” تواصلا معاً، عبر هذه الوسائل، ليعززا حبهما الأسطوري العظيم، ولكان ماركيز قد ذكر ذلك، كأحد وجوه ممارستهما للحب، افتراضياً، ولعلَّ نكهة إضافية أخرى، أضيفت إلى هذا السفر العظيم في الحب، بل إن الحب بوساطة هذه التقنية، من ضمن شبكة التواصل الاجتماعي، يمكن أن تفرد لها دراسات وبحوث مطولة، كما إنها من الممكن أن تكون نواة أعمال سردية أكثر أهمية؟!

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني