الحب في زمن العزلة
أجل. يظلُّ عنوان رواية الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز حاضراً، كلما تناولنا موضوعة الحب في زمن الوباء. الجائحة، ونكاد ألا نجد مناصاً منه البتة. هذا يبدو لي – في أقل تقدير – بالرغم من أنني أؤمن أنه ما أكثر العنوانات، لكن ما أقل ما هو جدير من بينها بالاحتفاء! ما أندر تلك العنوانات التي يمكن للكاتب اقتناصها، أو يمكن للصحفي اقتناصها، وهنا فإنني في موقع تقديم شهادة لماركيز في رائعته التي لها مكانة خاصة عندي، ولعلي كتبت أكثر من مرة عن ذلك، كما أنه ثمة كثيرون كتبوا، ولازالوا يكتبون، أو سيكتبون عن الرواية وعنوانها.
ولعلَّ هذا العنوان حضرني، وأنا أمرُّ – كما سواي في هذا العالم – في هذه الأيام الامتحانية، بكل معانيها، ليس امتحان النجاح في سنة دراسية يمكن إعادتها، وإنما امتحان الحياة واللاحياة. الامتحان الذي بالرغم من قساوته، لم يفلح في منع حضور الحب أرواح أبعاضنا، وإن كان سيكبحه لدى آخرين، بحسب عوامل كثيرة تؤثر في علاقاتنا، وإن ما شدني إلى هذا العنوان، كي أكتب عنه فصلاً خاصاً، بالرغم من كتابتي فصلاً آخر مشابهاً بعنوان” الحب في زمن العزلة” بل بما لا يختلف، أو يبتعد كثيراً عن فصل بعنوان “الموت في زمن العزلة” هو مقولة – افتراضية – في نص أدبي لإحداهن:
كل أوبئة الكون لن تمنعني من الالتقاء بمن أحبُّ!
ويمكن الاسترسال في تفاصيل أكثر، في سرد لوعة الحب التي تشتعل ألهبتها في قلب العاشق الحقيقي، أياً كان، وكذلك بالنسبة إلى عاشقته، بعيداً عن وساوس الخوف من الوصال بين هكذا أنموذجين، ولم يتح لي أن أقرأ نماذج من حالات الإصابة بكورونا بين: عاشق أو عاشقة، حتى الآن، ولعلها تكون ضرورية بالنسبة إلى اثنين: الكاتب المشتغل في مجال الإبداع، والباحث المختص في ميادين سيكولوجية اجتماعية. كل لغرض ما، وإن كان هناك العوام الذين قد يعنون بهكذا حكايات، ووقائع، تعلنها الصحافة ووسائل الإعلام بين الفينة والأخرى، بدافع جذب القراء، أو تسجيل السبق الصحفي، أو غير ذلك، إذ يتم تقديم موضوعات على أنها من عداد النوادر، ولربما تحدث مع أعداد كبيرة ممن يتندرون بها!
قد يرى بعضنا أن طقوس ولادة الحب، وتأجج ألهبته في الأرواح، أو النفوس، لا تتم إلا خلال شروط مناسبة: راحة البال – فائض الوقت – الاستقرار إلخ، إلا إنه في الحقيقة لا وقت محددٌ للحب، إذ إن المحكوم عليه بالإعدام، وهو على وشك لفظ أنفاسه الأخيرة، بعد أن تضيق حول رقبته الأنشوطة، ويُركَل الكرسي من تحت قدميه، فإن صورة حبيبته، شوقه إليها، تصوره لحزنها قد يكون حاضراً، بعمق، في خياله كما صور مقربيه: أمه، أبيه، أخواته وإخوته، محبيه، ولعلها – أي أنثاه – تنفرد عند بعضهم، لاسيما أن الحب العظيم يكاد ينسي المرء حتى نفسه، وهكذا لمن يلفظ أنفاسه الأخيرة على سرير الموت، بعد أن فتك به وباء عظيم، وقد يكون مثل هذا الكلام نواة منولوجين داخليين لهذين الأنموذجين، فيما أمكن الاشتغال على عمل روائي، سردي، إبداعي!
فائض كبير من الوقت، حيرة، قلق، توتر، خوف، رعب وغير ذلك من المفردات التي يمكن تشخيصها، في مرحلة – الحجر الكوروني – تعرف عليها كل من التزم بظروف العزل الاجتماعي. هذه المفردات كان من شأنها أن تؤجج الأخيلة، خيال كل امرىء حسب حاجته، لعلَّ المغترب يحنُّ إلى ذويه خلال اللحظات الحرجة في حياته، ولعلَّ المريض يرجو شفاءه، والتاجر يحلم بمزيد من الأرباح لتطوير تجارته ومضاعفة أمواله، وطالب العلم لتحقيق المزيد من العلم. المؤمن يقضي أوقاته هذه بالعبادة، الكاتب بالكتابة، المقاتل، على جبهة الحرب المشتعلة، يزاوج بين أمرين: الانتصار على عدوه، للعودة سالماً والظفر بحبيبته التي تشعل حماس الصمود في صدره. وهكذا بالنسبة إلى الجريح، إلى الظامىء، إلى الجائع، لأن كل هؤلاء، وغيرهم، من الممكن أن – يستسلموا في لحظة ما فيما إذا كانوا أصحاء الروح – أمام ظمئهم الأول لماء الحياة الأول السلبيلي: الحب، لأن كثيرين من طالبي العالم، المتصوفة، التجار، ذوي الحاجات العظمى، لا تنفصم حاجتهم إلى الطرف الآخر في ثنائية الحب: ذكراً أو أنثى، لأن هذه الحاجة الروحية، هي العظمى الأكثر حضوراً، كما يخيل إلي، ثمة من سمعتها وهي تقول:
توقف قلب أبي للتو، صرخت، اتصلت بسيارة الإسعاف عبر الهاتف، أعلمت إخوتي، أهلي، جيراني، وطوال اللحظة الأكثر حرجاً، جرحاً، طعناً لروحي، كنت أتمنى أن يشفى أبي، أن يعود معافى، عبر معجزة إلهية، إنه أعظم ما أملك بعد وفاة أمي، ولكن صورة من أحب لم تكن تفارق مخيلتي.
قد يظنُّ بعضنا هذه الحالة شذوذاً، أو يتكابر، ويتناولها – نقدياً – من مبدأ الشكِّ، والمواربة، إلا أنها – في الحقيقة – صورة طبق الأصل عن حالة الحب العظيم، الحب الاستثنائي، الطاهر، السامي، حب من هو معافى الروح، سليم الملكات، غير مصاب بعاهة إنعدام العاطفة، المشاعر، الأحاسيس. الحب الذي يهيمن على المرء، ويعيشه، من داخله، وهو يترفع عن – النزوة – أو – الشهوة – أو افتراسية الطرف الآخر، كما يتم أحياناً، وثمة قصص لا تنتهي من حولنا، نعرفها، بل إن التاريخ، والأدب، خلدا النزر اليسير منها، وكثيرون منا، من نكتب عن الحب، لم نتجاوز في كتاباتنا التي تتناول الموضوعة ما هو سطحي، قشري، بسبب الالتباس بين مفهوم الحب، وما يمكن أن يحسب عليه، من شوائب، وشواذ ملحقة.
هل ترى، أنني أتحدث، في الندرة؟ في ما هو غير واقعي، في ما هو غير ممارس؟ ولا أصل له إلا في الخيال؟. حقيقة، ليس من شأني أن أتعمق في تفاصيل تلك الروح التي تصلح لأنه تمس بالحب، ولا أقول يمسها الحب، لأنه من المؤكد أن ثمة جملة مقومات تتوفر فيها، وذلك على خلفية مفهوم صاحبها/صاحبتها، لموضوعة الحب، والحدود بينه والجنس، ومتى يلتقي المفهومان؟ ومتى يفترقان؟. مساحة الالتقاء، مساحة الافتراق، والاختلاف هو واقع، والجنس في عالم الحب الحقيقي ليس إلا اللحظة العابرة، ممكنة الاستغناء عنها، وليست المهيمنة. الحب هو ما يظل ويبقى ويصمد ويشدُّ طرفي معادلته إلى بعضهما بعضاً بعد أي تواصل، أو اتصال بينهما، هو الذي من الممكن أن يكون منسياً في لحظات الوصال؟
هل ثمة مبالغة، هنا؟
من جهتي، أجزم أن هناك حباً سامياً من هذا النوع، ليس حب السينما، أو الحكاية، أو الأساطير والخرافات، أو المسرح أو حتى التشكيل إلخ، إنما الحب الذي يمكن لمن يعيش هكذا حالات أن يصفه، ولقد سمعت، ولربما شهدت ضروباً من هكذا حب، من تجارب أصدقاء مقربين إلي، وأعترف بأن هذا النوع يكاد يكون أكبر من كتابته، ويحتاج إلى أن نقاربه في بحوثنا، ودراساتنا، وإبداعنا، ولعلي قادر أن أقول: قد يكون في الموسيقا الأكثر سمواً بعض المقاربات من هذا الضرب من الحب، لأنه أقرب إلى الحسية التي تنبث من هكذا حب!
وإذا كنت أتحدث عن هكذا حب رفيع، فليس لأنني أدعو إلى الرهبنة، ومعاداة الطبيعة البشرية، بل إنني أوردت هذه المفارقة لأشير إلى إمكان وجود حب عظيم يتجاوز شهوانيته، وقد أورد البروفسيور صادق جلال العظم في دراسته الأكثر أهمية والمعنونة بـ “الحب والحب العذري” تفاصيل، وشروحات، ونماذج للحب، يمكن مراجعتها، للاطلاع على أشكال، وتصنيفات عديدة للحب!
زمن العزلة الذي عشناه، خلال بضعة أسابيع، أو حوالي ثلاثة أشهر لدى بعضنا، أو أكثر لدى آخرين، كان في عمقه امتحاناً عظيماً في فضاء الحب. سموه، لمن – تسجلت أسماؤهم في قيوده – قبل هذه الزمن، بقليل، أو كثير، وكان زمن العزلة امتداداً له، أو من اندلعت شرارته في أرواحهم، خلال زمنه. لم يكن زمن العزلة بلا حب، بل كان زمناً من الحب الخالص، الحب النبيل، كان زمن امتحان الحب، زمن اختبار العاشق لذاته وللآخر، لحبه ولحب الطرف الآخر، ثمة حب كان يعيش بطرفيه تحت سقف واحد. كل من الطرفين يشدُّ من أزر الآخر، يشحن روحه ليواجه أحد أعظم تحديات العصر، وثمة حب خارج هذا الإطار، ثمة مسافات ما، تفصل بين طرفيه، لكنهما يجسران ما بينهما، ويعيشان حالتهما. حالة الحب العظيم، إن عبر الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي لتكون شاهدة هذا الحب، بيت هذا الحب، سقف هذا الحب، عش هذا الحب، أو عبر سواه، من الوسائل المتاحة، لاسيما بعد أن ماتت المكاتيب ميتتها الثانية، وكانت الأولى بعد ظهور البريد الإلكتروني، والثانية في زمن العزلة إذ يكاد البريد البيتي لأي منا يخلو إلا من رسائل ورقية مغامرة، في موضوعات حياتية، أو رسمية، ولا أظن أن بينها إلا طرداً من عاشق غامر وأرسل وردة لحبيبته في – يوم عيد الحب – أو يوم ميلادها، أو أية مناسبة أخرى، أو العكس!
فيروس كوفيد19، الذي قَهر العالم، قُهِر أمام عظمة الحب التي تغلبت عليه، وصيَّره العاشق، في زمن عزلته المفروضة، إلى مساحة حافلة بمرحلة جديدة من تاريخ حبه، أو خفق قلبه لأول مرة لأنثاه – أو العكس – في هذا الزمن المقتطع، عبر مكالمة هاتفية، أو عبر مراسلة فيسبوكية، أو غيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، أو في مشفى ما، في عيادة طبيب، في صيدلية، في مخزن تجاري، أمام فرن ما. بل ثمة قصص ما ولدت عبر – الصعقة – الصعقة التي تشبه ما يتحدث عنها المؤمنون بالغيب بأن روحاً مست روحاً أخرى. عانقتها، فكان حباً عظيماً ولد في قلبي عاشقين، أضاء شمس أحد طرفي الحب حياة الآخر. ليل الآخر البهيم، فجعلت مساحة عمره حياة حقيقية، حياة من حلم وفرح وعطاء، في أصعب زمن يعيشه العالم، من دون أن ينسى ألم العالم، من دون أن ينسى مهمته الحياتية في خدمة الآخرين، ولو كان هو ومشاطره في قصته متطوعين، لخدمة الناس، في حرب كورونا اللئيمة على أبرياء الكون!
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”