الثورة بين العنف واللاعنف
تعددت واختلفت ردود الفعل حول الشيخ جودت سعيد إثر وفاته، فمنها من تعرّض لتفنيد بعض عقائده واجتهاداته، وبعضها تعرّض لنظريّة اللاعنف التي كان يعتنقها ويدعو اليها، وبما أني لست مؤهلاً للحديث عن الجانب الديني والشرعي والحكم على عقائده واجتهاداته، ولكني أنتهز الفرصة لبيان مفهوم العنف واللاعنف وعلاقته بالثورة من ناحية تأصيلية شرعية وقانونية، والرد على بعض من حكم عليها بأنها نوع من العنف المحظور أو المرفوض أو المُحرّم أو المُجرّم على اعتبارها فعلاً عنيفاً وتمرداً على سلطة وخروجاً على حاكم.
الفطرة الإنسانية السليمة تقوم على الطمأنينة والسلام الداخلي اللذان ينبعان من احترام الحقوق ، وينعكس ذلك على سلوك الفرد في المجتمع سِلماً وطمأنينة وتفاعلاً وتشاركية وإنتاجية، ولكن هذا السلم وهذه الطمأنينة قد يتعرضان لطارئ يهددهما فينشأ لدى صاحب الفطرة السليمة دافعاً لحمايتهما، ويُترجم هذا الدافع من خلال أدوات الحماية وتنحصر إما بالنأي بالنفس وتجنب مصادر التهديد وهو طريق “اللاعنف”، وإما بالرد على مصادر التهديد بكل الوسائل المتاحة الذي تنظّمها أحكام حالة الضرورة وأحكام الدفاع المشروع ومن أدواتها العنف، وطالما أنها لم تتجاوز أحكام الضرورة وأحكام الدفاع المشروع تبقى في إطار الأدوات الشرعية، وفي حال تجاوزها أو التعسف باستعمالها تنقلب إلى اعتداء غير مشروع.
تدور المقاصد الشرعية في الإسلام في فلك الضروريات الخمس، حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ العرض وحفظ المال، وإن أي أذى يمكن أن يلحق بها يقع على صاحبها واجب الدفاع عنها باعتبارها حقوق مصانة ومحمية بنص الشريعة، لأنها من مقتضيات تحقيق حكمة الله في عمارة الأرض والاستخلاف بها وسيادة الأمن والأمان وإشاعة الهدوء والاطمئنان، ودفع الظلم والجور والعدوان، لذا فإن الدفاع عنها لا يُرتِّب على المدافع أية مسؤولية سواء كانت جنائية أو مدنية.
قال الله تعالى “وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ”، وقال “أُذِن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق”، وقال رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: “من شهر على مسلم سيفاً فقد أُحِلَ دَمه”. من هنا يأتي تأصيل إباحة الدفاع عن الدين والنفس والعقل والعرض والمال باعتبارها استعمالاً لحق أو أداء لواجب ما يمنح صاحب الحق باللجوء الى الطرق المحرّمة كضرورة اقتضاها دفع الظلم ورد العدوان، انطلاقاً من القاعدة الفقهية التي تنص على “أن الواجب لا يتقيّد أداؤه بشرط السلامة”.
وقد نص قانون العقوبات السوري على الدفاع الشرعي في المادة “183” من قانون العقوبات التي جاء فيها ما يلي: “يعد ممارسة للحق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرض غير محق ولا مثار عن النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري”. كما اعتبر القانون الدفاع مشروعاً بمجرّد توفّر إحدى الحالات المذكورة في المادة “549” من قانون العقوبات، وهي: فعل من يدافع عن نفسه أو عن أمواله، أو عن نفس الغير أو عن أمواله تجاه من يقدم باستعمال العنف على السرقة أو النهب. أو الفعل المقترف عند دفع شخص دخل أو حاول الدخول ليلاً إلى منزل آهل أو إلى ملحقاته الملاصقة بتسلق السياجات أو الجدران أو المداخل أو ثقبها أو كسرها أو باستعمال مفاتيح مقلدة أو أدوات خاصة.
كما أن حق الدفاع الشرعي معترف به للدول ومن باب أولى أن يتمتّع به الأفراد والمجموعات حيث نص بروتوكول جنيف لسنة “1624” على حق الدفاع الشرعي في المادة الثانية والتي تنص على: “أن الدول الموقعة قد اتفقت على أنها لا تلجأ إلى الحرب كوسيلة لفض المنازعات بأي حال إلا في حالة مقاومة أعمال العدوان”، وتنص المادة “51” من ميثاق الأمم المتحدة على أنه “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي”.
وحيث أن النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين والمرتزقة تمادوا وأوغلوا في جرائمهم ضد السوريين وسلبوا الحريّات وانتهكوا الحرمات وارتكبوا الموبقات فلا سلم منهم دين أو نفس أو عقل أو عرض أو مال، ودمّروا البلاد وأهلكوا العباد، وضربوا عرض الحائط الشرائع السماوية والمواثيق والمعاهدات الدولية التي نصّت على أن البشر أحرار، ومتمتعون بالحرية المدنية والسياسية ومتحررون من الخوف والفاقة، ووجوب تمكين كل إنسان من التمتع بحقوقه المدنية والسياسية، وكذلك بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وحيث أن القاعدة الفقهية تنص على أن “الضرورات تبيح المحظورات” والتي تفرّع عنها قاعدة “الضرورات تُقدّر بقدرها” وحيث أن النظام السوري وحلفاءه لم يدّخِروا سلاحاً من طيران حربي وبراميل متفجِّرة ودبابات ومدفعية وصواريخ بالستية، نابالم، عنقودي، كيمياوي، حراري. واتبعوا سياسات ممنهجة في القتل، والاعتقال، والاختفاء القسري، والاغتصاب، والسلب، والنهب، والتدمير، والتهجير، والتشريد، فلم يكن أمام الثوار والأحرار إلا الدفاع عن النفس وإن سلاحهم مهما بلغ من القوة والشِّدّة يشكِّل نسبة لا تكاد تُذكَر أمام حجم قوة وشِّدة وفتكِ وتدمير سلاح العدوّ الصائل وحلفائه، وعليه لا يمكن القبول بتصنيف أو تأصيل أو تأويل الثورة وسلاحها على أنها “عنف عدواني” ومهما بلغت ضحايا الأعداء وخساراتهم لا يمكن القبول بتجاوز الثوار حالة الضرورة وحدود الدفاع المشروع.