fbpx

الثورة بين التنظيم والحوكمة

0 172

تعتبر أزمة القيادة من أهمّ الازمات التي تمرّ بها أي ثورة في العالم وهي من أدقّ وأخطر الأزمات التي تؤثِّر على مسارات الثورات فهي إمّا أن تقود إلى الانتصار الساحق وإما أن تقود إلى الهزيمة النكراء وقد تؤدّي في مرحلة ما إلى شراكة مع النظام القائم فلا هي انتصرت ولاهي هُزِمت كما هو الحال عليه في ثورتنا حيث يحاول المجتمع الدولي جاهداً تكريس هذه المعادلة للإبقاء على النظام وإعادة تأهيله.

والثورة السوريّة مثلها مثل كل الثورات في التاريخ السابقة منها أو الحاليّة تعاني من أزمة قيادة تكمن أسبابها في اختلاف وتعدد الإيديولوجيّات بالإضافة إلى تحويل الثورة في مناطق معيّنة إلى مشاريع حكم ناشئة مُنغلِقة على نفسها مما أدّى إلى اختلاط الأسس التنظيميّة بين التنظيم الحزبي السياسي والتنظيم العسكريّ العشوائي والتنظيم الإداري وبالتالي خلق هياكل تنظيميّة هجينة من التنظيم الثوري والعسكري ومن الحوكمة الإدارية الرشيدة وهذه الهياكل لا تُعمّر كثيراً لاختلاف وتباين مقومات بقاء التنظيمات الثوريّة والتنظيمات العسكريّة عن مقومات الإدارة الرشيدة.

الثورة هي عقيدة قبل أي شيء واقتناص اللحظة الثوريّة هو الخطوة الأولى في العمل الثوريّ الذي ينقل الثورة من حيّز النفسيّ إلى حيّز الوجود وهي لحظة لا تتكرّر مع الفرد إلّا مرة واحدة فإن أحسن اقتناصها وتفعيلها في إعادة إنتاج نفسه وبعثها من حالة القهر والوهن والضعف ونقلها إلى مرحلة التحرّر والقوة والحزم عبر نزع أيٍّ من نوازع النفس والهوى ونبذ كل ما يوهن العزيمة أو يُعيق إعادة انبعاثه وكسرِ كل قيد أو عصبيّة والتحرّر من كل أسباب العبوديّة وخروج هذا الكائن من حيّز الفرديّة المُنغلِقة المنفعِلة إلى حيّز الثوريّة المُنفتِحة على العموم الفاعلة والمؤثِّرة.

إنّ الاختلاف في الانتماءات ما دون الثورة وتعدّدها وتفوّقِها على الانتماء الثوري سبباً رئيسيّاً من أسباب أزمة القيادة وعاملاً من عوامل انهيار أي تنظيم ثوري أو عسكريّ أو إداري حيث تتراجع الهوية الثوريّة أمام الهويّات العصبيّة والحزبيّة والفصائليّة والمناطقيّة والعشائريّة والإيديولوجيّة التي تُشعلها أدنى شرارة أو إثارة تثير تلك النعرات فتطغى العصبيّة على الثوريّة ويقع الصِدام الذي يقود إلى الانهيار الحتميّ للقيم الثوريّة.

قوة الثورة تتركّز في مركزها وهي أشبه بقوة الجاذبيّة في الحركة الدائريّة وتتمثّل هذه القوة بالراديكاليّة الثوريّة بمفهومها الفكري ’’التمسّك المُطلق بالثوابت الثوريّة‘‘ وعدم التفريط أو التنازل عنها تحت طائلة الحكم على من يقوم أو يتسبّب بذلك بالخيانة ضرورة ثوريّة للجم أي انفلات داخليّ وتحصين الفكر الثوري من التمييع أو التفريط، فالثورة في طورها الأول – أي طور هدم النظام القائم – هي فلك دائري الحركة تفرضه عوامل ذاتيّة منها عدم امتلاك القوة الكافية والهامش الواسع للتحرّك والعمل وعدم وجود بيئة آمنة تؤمِّن الحد الأدنى من الحماية، وعوامل خارجيّة منها قوة النظام العسكريّة والأمنيّة وإجرامها وشبكة جواسيسه ومُخبريه وعملائه المنتشرة بكثافة في كل مكان وفي كل عائلة وحيّ والانقسام المجتمعي شاقولياً وأفقيّاً حتى وصل إلى الأسرة والعائلة الواحدة والحي والقرية والمدينة والعشيرة الواحدة.

فالعمل الثوري يحتاج لسهولة الحركة وزيادة في تسارعها يُمكّنها من استقطاب الغير ومنع أطيافها الهشّة والضعيفة من الخروج عن مدارها الذي تلعب فيه اتجاه وشدّة قوتها الجاذبيّة المركزيّة ’’الراديكاليّة الثوريّة‘‘ التي تحول دون تفوّق القوة النابذة الناجمة عن فشل بعض أطياف الثورة وفقدانها الثقة وانحراف بعضها الآخر وتفريط البعض الآخر أو ثبوت خيانته.

كما تلعب الراديكاليّة الثوريّة دوراً مهمّاً في الحدّ من تأثير القوى الخارجيّة على مسار وسرعة حركة الثورة حيث إن العلاقة بينهما علاقة عكسيّة فكلما اشتدّت وتنامت قوة الثورة المركزيّة ضعُفت شدة القوة النابذة والقوى الخارجيّة وكلّما ضَعُفت قوة الثورة المركزيّة كلما زادت شِدة القوى الخارجيّة.

يبدأ الخلل الجوهري بين أطياف الثورة بالتنافر بين قواها الذي يحوّل مسار القوة من اتجاهها في مواجهة العدوّ إلى مسار إما التخلّص من القوى الخارجة عن المسار أو إعادتها إليه مما يجعل كِلا القوتين في مرمى القوى الخارجيّة التي ستستقطب ما يتوافق مع مصالحها وأهدافها وتطيّفها بطيفها وشحنها بقوتها لتكون قوة مضاعفة ضد قوة الثورة ولتكون نواة الثورة المضادة.

القوة الثوريّة المركزية تتألّف من عاملين أساسيين هما التنظيم والانضباط، فالتنظيم يحدد المسارات الثوريّة وفتح بوابات توفير الإمكانيّات وترشيدها بما يحقق أهداف الثورة، والانضباط يؤدّي للارتقاء بمستوى الأداء وتحقيق أعلى مستويات الدقة في التنفيذ وبأقل التكاليف لأن الانضباط يُقلِّل من الأخطاء التي غالباً ما تكون نتائجها كارثيّة في العمل الثوري.

لم تبق ثورتنا منذ الغزو الإيراني والروسي في طورها الأول ثورة شعب على نظام مستبِّد وحسب بل أصبحت ثورة على مستبدٍّ وغُزاة استولوا على مقدرات وثروات البلاد وسلبوا القرار السياسي والعسكري والاقتصادي في البلاد مما أفقدها استقلالها وسيادتها الوطنيّة هذه السيادة التي أقر بها الدستور بأنها ملك للشعب السوريّ وليست للنظام، وهذا الغزو يمنحنا كسوريين أحرار حق المقاومة المشروعة كما يمنحنا استخدام كل الوسائل المشروعة لاسترداد البلاد منهم وطردهم منها ومنها العمل المسلّح وهذا العمل له أطره وشروطه وآلياته فهو حركة تحرر شعبيّة تقتضي حشد طاقة الشعب جميعه لأداء واجبه على كافة المستويات العمّالية والنقابات والمنظمات والجمعيات الأهليّة بالإضافة للتنظيمات الحزبيّة مع تشكيل كيان عسكري مقاوم يتمتّع بالكفاءة والقدرة على المناورة واختراق صفوف العدو وضربه في مكامن ضعفه واستنزافه، وهذا يتطلّب القيادة الثوريّة الكفؤة المؤمنة بقضيّة التحرّر وخبراء في تخطيط عمليات المقاومة المدنية والعسكريّة ويحتاج إلى كوادر موثوقة وكافية للتنفيذ، وهذه العمليّات تتطلب القدرة على تقدير الموقف والسرعة في اتخاذ القرار، والسريّة العملياتية، وشبكات التواصل الآمنة وتأمين طرق الإمداد والإخلاء الآمنة وتأمين حياة الكوادر القياديّة في مناطق العمليّات الذي يحتاج إلى بناء شبكات من المتعاونين والجواسيس في صفوف العدو أو قريباً منه، وهذا ما تفتقده الثورة اليوم بسبب تحويلها إلى مشاريع دويلات تعتمد مبادئ وقواعد الحوكمة الرشيدة التي تتناقض كليّاً مع مبادئ وقواعد العمل الثوريّ.

فالحوكمة هي مجموعة القوانين والأنظمة والضوابط التي تنظم العلاقات بين أصحاب المصلحة وتحقِّق مجموعة من المبادئ كالعدل والشفافية والمساواة. ومن هذا التعريف نجد أن الغاية من الحوكمة تحقيق مصالح المستثمرين واصحاب المصالح والارتقاء بالإدارة العامة أو الخاصّة إلى أعلى مستويّات المهنيّة والأداء التي تقوم على المبادئ التاليّة:

وجود مجلس إدارة: وتحديد مسؤولياته وتشمل هيكل مجلس الإدارة وواجباته القانونية وكيفية اختيار أعضائه ومهامه الأساسية ودوره في الإشراف على الإدارة التنفيذية، ويختلف كليّاً عن مجلس القيادة الثوريّة من ناحية المهام والمسؤوليات والهيكليّة وطرق الاختيار.

تمثيل أصحاب المصالح: لأصحاب المصالح دور أساسيّ في حوكمة الشركات فهُم المستهدفين الأساسيّين في عمليات الحوكمة كونهم أصحاب رأس المال أو مالكي أدوات الإنتاج ومن أهم حقوقهم التي تقتضيها الحوكمة المساواة في المعاملة وحماية حقوق المساهمين وهذا ايضاً يتناقض مع العمل الثوريّ الذي تكون فيه المصلحة الثوريّة هي العليا والحفاظ عليها وتحقيقها هو الهدف الرئيسي للعمل.

الإفصاح والشفافية: وهذا يتطلّب تعزيز الرقابة المالية بهيئات مستقلة إلى جانب الرقابة القضائية بنوعيها الإدارية والجزائية وتفعيل مبدأ المسؤولية والمُسائلة وهذا أيضاً يتناقض مع طبيعة العمل الثوري الذي يقوم في غالبه على السريّة والابتعاد عن اعين الرقيب الخارجي ’’المُستقلّ‘‘ لأن هناك نشاطات ومهام ثوريّة قد لا تتوافق مع القانون الوطني أو القانون الدوليّ كتقديم المال والسلاح او تجنيد المقاتلين وغيرها من النشاطات الثوريّة مما يجعل الرقابة عليها مدخلاً لمحاسبة القيادة الثورية ورُبّما ملاحقتها أو محاكمتها الأمر الذي يعيق العمل الثوري ويُحمّل الثورة أعباء خارجيّة تُضعِف من مركزها القانوني والسياسي، وهذا لا يعني عدم خضوع العمل الثوري للرقابة والمحاسبة مُطلقاً بل يجب إيجاد هيئات رقابيّة ثوريّة داخليّة قادرة على المتابعة والرقابة والمحاسبة ضمن الأطر الثوريّة التنظيميّة والبشريّة.

لقد كشفت ثورة أحرار السويداء واللافِتات التي ترفع الشرعيّة عن الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة وعشرات المبادرات لتشكيل بديلٍ عنه، وثورة العشائر في شمال شرق سوريّة، وعمليّة اقتحام مقرهّ في إعزاز مؤخّراً وطرد موظفيه وإغلاقه، عن عُمق أزمة القيادة والتنظيم الثوري في الشمال السوريّ المُحرّر، واكّدت على ضرورة وجود المرجعيّة الثوريّة المتجرِّدة من أي نوازع شخصيّة أو عشائريّة أو حزبيّة أو فصائلية أو مذهبيّة أو عرقيّة تقوم بالحفاظ والدفاع عن ثوابت الثورة أمام عدوّها الداخلي قبل العدوّ الخارجي، العدوّ الداخلي الذي يدخل من بوابة المحسوبيّة والانتهازية أو عبر التسلّق أو الاختراق.

كما كشفت التفاوت وعدم الانسجام بين ثلاثيّة القوى ’’القوى السياسيّة والقوى العسكريّة وبين القوة المركزيّة الثوريّة‘‘ الناجم عن اختلاف الأهداف والاستراتيجيّات والأدوات.

كما أثبت فشل نظريّة ’’الثورة ملكيّة خاصة‘‘ التي حاول أصحاب مختلف الإيديولوجيات المتصارعة على الساحة فرضها على الثوار بدليل عودة الفهم الصحيح للثورة من قِبل أهلها الذين بدأوها مع منتصف آذار 2011 والذي تجلّى بعناوين مظاهرات الدعم والتأييد لثورة السويداء مثل ثورة لكل السوريين وثورة الكرامة بالإضافة إلى الشعارات المرفوعة اثناء المظاهرات التي تُكرِّس حرص الثوار على وحدة الشعب والأرض السوريّة ورفض أي نوع من أنواع التقسيم أو التجزئة على حساب هذه الوحدة واللجوء إلى تكتيك الاستقطاب وتفكيك اركان النظام من داخل مناطق سيطرته دون الدخول في دوّامة العنف لقطع كل ذراع يُمكِن أن يكون ذراعاً من أذرع الثورة المُضادة.

وبناءً على ما سبق وإسقاطه على واقع الثورة السوريّة نجد أنها تعاني من أزمة قيادة وخلط بين مفهوم القيادة ومفهوم الحوكمة أو الحكم الرشيد فالثورة ليست حكماً ودستور وقانون وإنّما هي تمرّداً على نظامٍ قائم وأول خطوات التمرّد الخروج على تلك القوانين والأنظمة والقرارات لأنها قيود تعيق العمل الثوري بل تنسفه من جذوره كونها تجرِّمه وتنزع عنه أي مشروعيّة، ويبقى الحلّ الوحيد الناجع لمعالجة أزمة القيادة هو الانتقال بالعمل الثوري من الحالة الحاليّة إلى حالة التحرير الوطني وتشكيل جبهة تحرير وطنيّة يقودها مجلس قيادة عليا مصغّر يقوم بتشكيل لجان ثوريّة مناطقيّة وتوزيع المهام تحديد الأهداف وتركيزها، واعتماد لا مركزية العمل التحرّري المرتبط بمدى توفّر إمكانيّات وقدرات اللجان الثوريّة في المناطق يكون هدفها الاستراتيجي إسقاط النظام وطرد الغزاة الروس والإيرانيين واسقاط كل المشاريع الانفصالية الفيدراليّة والتقسيميّة وتحرير البلاد والحفاظ على وحدة البلاد أرضاً وشعباً.

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني