الثقافة والسياسة
تعني الثقافة في اللغة العربية الحذق والفهم، والتثقيف هو التهذيب والتشذيب والتقويم والفطنة.
وقد تعددت تعريفات الثقافة وتنوعت وهذا لا يُعيب الثقافة بشيء فالثقافة كلمة غامضة الدلالة عميقة المفهوم واسعة النطاق. من الصعب وضع تعريفاً جامعاً مانعاً لها.
فالثقافة تتمرّد على كل تحديد فهي تعشق الحرية شكلاً ومضموناً ولها علاقة تقارب بمصطلحات ومفاهيم أخرى كالتعليم والتربية والعادات والتقاليد والتنمية والبناء الحضاري لأي مجتمع أو أمة أو شعب عبر التطور التاريخي. علاقة التقارب بينها وبين هذه المفاهيم كعلاقة الأم بأولادها. فهي لا تحصر نفسها بين الجدران وتعلو فوق الاسوار حتى لو كانت مكللة بالورود والازهار. فكل مجتمع له ثقافته ولا ثقافة بلا مجتمع.
فالثقافة هي العتلة التي ينتقل بها الإنسان والمجتمع لحياة أفضل ولوضع يواكب المشاكل التي تواجهه، في سياق تأكيد ذاته وتلبية حاجاته الأساسية.
إذاً هي الجهد المبذول التراكمي، بل هي مركبٌ كليٌ متكامل المعنى متماسك الفروع قابلاً للحياة.
فالثقافة وإن تعددت وتنوعت معانيها وتعاريفها لكننا نستطيع أن نتلمس ما اتفقت عليه هذه المعاني والتعاريف :فهي المخزون الحي في الذاكرة كمركب كلي ينمو بشكل تراكمي مكون من محصلة العلوم والمعارف والأفكار والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقوانين والأعراف والتقاليد والمدركات الذهنية والحسية والموروث التاريخي واللغوي والبيئي التي تصوغ فكر الإنسان وتمنحه الصفات الأخلاقية والقيم الاجتماعية التي أيضاً تصوغ سلوكه العملي في الحياة، باختصار هي كل ما نفكر فيه أو يوجّه عملنا ونقوم به في مجتمع ما وبزمن ما، فالثقافة ظاهرة مركبة تتكون من عناصر بعضها فكري وبعضها سلوكي وبعضها مادي. .
والمثقف ليس بعدد الكتب التي قراها او يحتويها بمكتبته بل بمستوى وعيه الديناميكي المُحرك لسلوكه الواعي بالواقع.
أما السياسة: من حيث اللغة، مصدرها: ساس يسوس، واصطلاحاً هي رعاية شؤون الدولة والمجتمع داخلياً وخارجياً وتعرّف باختصار : هي توزيع النفوذ والقوّة ضمن حدود مجتمع ما وتنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين.
لكن لابد لنا من أن نميّز بين السياسة وعلم السياسة، أما علم السياسة هو العلم الذي يقوم بدراسة الحكومات والمؤسسات وعدد من السلوكيات والممارسات التي يقوم بها السياسيون ويهتم بدراسة آلية الحكم والسلطات السياسية تنفيذية أو تشريعية كما يهتم بدراسة الرأي العام ومدخلاته ومخرجاته والأحزاب وجميع أوجه النشاطات السياسية للفرد.
ومن الجدير ذكره بأن مفاهيم السياسة تعددت بتعدد الفلاسفة فهي تختلف من فيلسوف لآخر فهي عند “ميكافيلي” غيرها عند “ابن خلدون” وغيرها عند” فوكوياما” وغيرها عند “أنجلس وماركس”. ولا مجال في هذه الفسحة الضيقة لأن استعرض هذه التعريفات والتي عددها بعدد الفلاسفة وما أكثرهم. لكن معظمهم ربط السياسة بالسلطة وإدارة شؤون الدولة والمجتمع.
ما هي العلاقة بين الثقافة والسياسة (المثقف والسياسي)؟
العلاقة بين الثقافة والسياسة كعلاقة الأخوة الأعداء أو الأصدقاء المتنافرين، فهي أي العلاقة بينهما من الإشكاليات المعقدة في الحياة الثقافية والسياسية وتتعقد هذه الإشكالية بغياب الديمقراطية.
إن التناقض بين السياسة والثقافة له أسبابه وهو على أنواع ومستويات، منها ما هو أساسي مرتبط بطبيعة كل من السياسة والثقافة، حيث السياسة تنزع بطبيعتها إلى ضبط الحركة وقوننتها وتوجيهها وميلها للاستقرار بينما الثقافة تنزع كالفكر للتمرد والحرية والخروج عن المألوف وتنتعش في جو من التنوع والتعدد ثائرة على الرتابة والجمود.
أما نمط تفكير رجل السياسة وأهدافه هو نمط تكتيكي مرحلي بينما رجل الثقافة استراتيجي، منهجه بعيداً عن المصالح الشخصية. لكن يجب أن نلاحظ أن القائد السياسي الديمقراطي يدفع الثقافة للأمام ويكون بينهما تعاون مثمر، بينما القائد السياسي الاستبدادي الذي يميل للحكم الفردي والهيمنة يعيق العلاقة بين الثقافة والسياسة ويضعها في خدمة مصالحه لا في مصلحة المجتمع فيقرّب المثقف الخادم له ولأهدافه ويبعد المثقف الحرّ المبدع، فالسلطة السياسية المستبدة تحوّل السياسة إلى فن المراوغة والتلاعب والتضليل فتنتج ثقافة خارج حقل الفكر تستند لردود أفعال وتوجهات لا تتصل بالوعيٍ ولا بالضمير والقيم الإنسانية النبيلة، لذلك تحرير العقل وتوسيع دائرة النقاش والحوار سياسة لا يمكن صناعتها الاّ في حقل الثقافة الديمقراطية الحرة لان ذلك شرطاً للإبداع.
يجب أن تنطلق السياسة من آفاق الفكر، والفكر من نتاج العقل ويحلّق الأمل والحلم وتحلّق الثقافة بأجواء سياسية ديمقراطية.
فالسياسة والثقافة تخترق أحدهما الأخرى قبلنا ذلك أو لم نقبل فهما متناغمتان متداخلتان، فانفتاح المثقف على المجال السياسي يؤدي إلى تغيير سياسته الفكرية بشكل يتيح له ابتكار رؤىً جديدة وتتفجر عنده طاقات وإمكانيات جديدة للتأمل والإبداع. وانفتاح رجل السياسة على الثقافة ومنتجات الفكر يؤدي إلى تغيير فكره السياسي ويتيح له اشتقاق إمكانيات جديدة للعمل والتدبير واكتشاف حلول جديدة للمشاكل التي يعاني منها المجتمع.
وهنا نكون أمام تعاون مثمر وخلاّق بين الثقافة والسياسة فتغيير سياسة الفكر يسهم في خلق واقع ثقافي تتغير معه العلاقة بالواقع السياسي والممارسات السياسية، والأجواء السياسية ذات الطابع الديمقراطي تسهم في خلق واقع اجتماعي له ثقافته المتميزة، فالإبداع من اختصاص الثقافة بينما السياسة قد تدفع بالمجتمع وثقافته للأمام إذا كانت ديمقراطية وتعيق تقدمه وتطوره إذا كانت استبدادية.
فتحقيق العلاقة الصحيحة بين المثقف والسياسي تطلب قبل كل شيء نقد جميع التصورات المبتذلة لهذه العلاقة وان تكون العلاقة بينهما تكاملية فالعمل بين المثقفين بأدوات ثقافية وسياسة ثقافية.
وهذا لا يتم إلاّ عبر تحرر الفكر من القوالب الجامدة وفي مناخ سياسي ديمقراطي.
لذلك أدعو المثقف ليكون سياسياً بدون أن يفقد حريته وتفكيره الحر لأنه شرط الإبداع وأدعو السياسي ليمتلك وعي ثقافي ذات طبيعة سياسية لكي يستطيع أن يحس بشخصية المبدع ويتلمس خطواته.
تبرز أهمية المثقف من أهمية الثقافة نفسها ومن حاجة المجتمع. فالمثقف نتاج حالة اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة ,لذلك نجد مثقفاً ساكناً ليس له دورٌ فاعلٌ وايجابيٌ ومنتجٌ، مثقفاً يعيش خارج المجتمع بل خارج الزمن ينتج ثقافة الجمود والتعصب والتخلف والخوف والسلبية، مثقف النخبة مغترباً عن مجتمعه والناس ويتحوّل قلمه لرفض الآخر ويدعو بشكل مباشر عن قصد أو غير مباشر للنفي وإقصاء الآخر ويمارس القمع والترهيب ويعشق المال.
وقد نجد المثقف المتحرك الديناميكي المنفتح ينتج ثقافة التجديد ويساهم بالتنمية والنمو ويواكب الزمن ومتغيراته ويدعو للتسامح والتعايش والتعددية ويدعو ويمارس الحرية والعدالة ويؤمن بالمساواة ويعشق العلم ويتحرك مع تطلعات الشعب وقيمه ومفاهيمه وتطويرها، ومنفتح على الثقافات الأخرى القديمة والمعاصرة ويدعو إلى رفع الظلم قولاً وسلوكاً ولا يؤمن بأي نوع من التمييز العرقي أو الطائفي أو المذهبي أو الاجتماعي سياسياً أو طبقياً، هذا المثقف هو السياسي لكنه يمتلك وعياً سياسياً وثقافياً متقدماً. لذلك لا يجوز إبعاده عن السياسة ولا نُبعد السياسي الديمقراطي المستنير الذي يؤمن بإنسانية الإنسان ويسعى لتحقيقها كهدف مشروع يليق بالإنسان في القرن الحادي والعشرين لا يجوز أن يكون بعيداً عن الثقافة.
ولا يجوز فك الارتباط بين المثقف والسياسي لأن السياسي يقدّر ويراعي الظروف والإمكانيات المتوجودة لدى المثقف بشكل دقيق ويؤمن بقدرته بقيادة المجتمع والتأثير فيه فيدفعه إلى لأمام ومن جهة ثانية المثقف يقوم بدور المحرّض على العمل والبناء مستخدماً قلمه بكل جرأة وشجاعة.
على ضوء ما سبق كيف ترى الثقافة العربية؟
ألا ترى معي بأنها ثقافة مأزومةٌ وأزمتها أزمة مركّبة سياسية اجتماعية اقتصادية، تتجلّى في التخلف والتعصب فالعالم يسير في طريق الانفتاح مع وجود الصراع داخل المجتمع الواحد من جهة ومع المجتمعات الخارجية من جهة ثانية.
وتتجاذب الثقافة العربية تيارات متعددة، ثقافة معاصرة ومعظمها مستوردة وثقافة أصولية سلفية لن نأخذها بعقل منفتح بل بقدسية لدرجة أنها استحوذت على وعينا لدرجة نستطيع أن نقول يقودنا الأموات ويتحكمون بحاضرنا ومستقبلنا. فلم نستطع توظيف موروثنا الثقافي توظيفاً مثمراً، ولم نتعامل مع ثقافة العصر بعقل منفتح بعيداً عن التعصب، ولم نستطع تجاهل ثقافة الحداثة التي ترافقت مع النضال ضد الاستبداد، والثورة من أجل الديمقراطية وبناء الدولة الحديثة دولة المواطنة وسيادة القانون الدولة العلمانية الديمقراطية. لذلك مازال الربيع العربي وثوراته تعاني الكثير.
فالمسؤولية الفكرية للمثقف العربي لم تعد تسمح بالصمت أمام الحلول الإصلاحية السطحية للواقع، وكلنا يعلم أن الفكر يتشكّل في إطار تاريخي جدلي مع الواقع المعيش وبتحليل طبيعة هذا التفاعل بالمجتمعات العربية نجد أن الفكر العربي منعزلاً عن واقعه متقوقعاً على ذاته.
إخوتي آن الأوان لنفكرَ بصوت مسموع حر. وتشخيص الواقع السياسي والاجتماعي العربي بمنهج التفكير العلمي للوصول للحقيقة أمام مشهد معقّد متناقض وان نهتدي إلى الحلول الواقعية، فخلاص الشعوب العربية في أي بقعة جغرافية مما يسمى الوطن العربي سواء في سورية أو مصر أو تونس أو ليبيا أو لبنان أو اليمن أو.. الخلاص من أزمته، بانتصار ثورته على أسس ديمقراطية.
وأعتقد بأن قوانين الديالكتيك تؤكد على ضرورة الربط الدقيق بين الممارسة والفكر وحتى تكون المعادلة بين الفكر والواقع صحيحة ومنتجة لابد من تحقيق الشروط الآتية:
1- الشرط الأول أن تبقى الممارسة أمينةً للفكر الذي تعبّر عنه وتسعى لتحقيق أهدافه.
2- الشرط الثاني أن يبقى الفكر مستقلاً عن الممارسة أي أن يبقى محتفظاً بوظيفته النقدية من أجل تصحيح الممارسة وترشيدها.
3- أما الشرط الثالث هو أن يستمر الفكر في حركة دائمة أي في حالة تجدّد وتغيّر دائمين وفق ما يفرضه تطور الحياة والمستجدات.
فالحذر كل الحذر من أن يتحوّل الفكر إلى عقيدة، فيفقد دوره حينذاك في عملية التطوّر ويتجمد في برّاد الحياة، بل يجب أن يبقى في صيرورة دائمة وتغير دائم متماشياً مع صيرورة الحياة نفسها.
مع التأكيد على قول “كريم مروّة”: لا ثقافة حقيقية خارج الثقافة التي تمجّد الحياة ولا سياسة حقيقية من دون فكر إنساني تستند إليه.