التطبيع كقضية سورية داخلية
يحق لجميع شعوب المنطقة ومنها الشعب السوري البحث عمن يعينهم على تحقيق أهدافهم الوطنية المشروعة، كبناء دولة مواطنة ديمقراطية حقيقية، وخط مسار النهوض والتقدم المفقود حتى الآن، لاسيما بما يخص بناء اقتصاد منتج صناعي وزراعي متطور وحديث، والنهوض بمجمل العملية التعليمية المحلية كي تواكب العصر وتلبي احتياجات الاقتصاد المنتج لاسيما الصناعي منه. وعلى التوازي مع هذا الحق الشعبي نلحظ مؤخراً تسارع الخطاب التطبيعي العربي رسمياً، وإن تراوحت درجات التطبيع بينهم، فمن التحالف الإماراتي – الصهيوني وربما البحريني والسعودي.
كذلك، أطل علينا رأس النظام السوري وحليفه المحبب نبيه بري برؤية تطبيعية مجملة، مفادها الأهم استعادة عبارة النظام السوري الشهيرة الأرض مقابل السلام. ولكن أي أرض؟ فقد وافق محور الممانعة على بدء جلسات التفاوض اللبناني – الصهيوني غير المباشرة، تحت عنوان ترسيم الحدود بينهما بمعزل عن أي ملف عربي آخر، وهو ما يعبر بما لا يدع مجالاً للشك عن أي أرض يتحدثون بالضبط، إذ يتحدثون عن أراضيهم القطرية وحسب ويستثنون باقي الأراضي العربية المحتلة.
طبعاً، لا أجد ما يدعو للاستغراب من التصريحات السورية واللبنانية الأخيرة، ولا حتى من الخطوات التطبيعية العربية الأخرى، التي بدأت منذ زمن بعيد وطويل، ويكفي التذكير بالخطوات السورية التصالحية في الفترة القصيرة الماضية عبر الوسيط أو بالأصح المحتل الروسي، الذي سلم الدولة الصهيونية دبابة ورفاة أحد جنودها المحتجزين لدى النظام السوري. غير أني أستغرب صمت قوى المعارضة السورية الرسمية، وتجاهلها المطلق أو شبه المطلق لهذا الموضوع، وهو ما يعكس مدى تشويش رؤيتهم تجاه الدولة الصهيونية بالحد الأدنى، إن لم نقل تطابق رؤيتهم مع رؤية النظام السوري حيالها. لكن وبغض النظر الآن عن الرؤية السورية الرسمية النظامية والمعارضة تجاه الصهيونية، يبدو لي من المهم تسليط الضوء على دور ومكانة وطبيعية الصهيونية وتأثيرها على الوضع السوري الداخلي، من زاوية حضارية وتنموية بحتة، رغم أهمية الحديث عن بعدها الاجتماعي والسياسي أيضاً.
فمن مراجعة الأحداث والوقائع السورية الأخيرة نجد مدى انخراط الدولة الصهيونية في مسار الأوضاع السورية، عبر تدخل عسكري مباشر وصريح، وتدخل سياسي مباشر وغير مباشر، ما عكس دورها في تحديد المسار السوري عموماً وتأثيرها على مستقبل وراهن سورية، وهو مسار مناقض لأبسط حقوق السوريين وطموحاتهم في مجمله. فهل سبب ذلك فشل المعارضة السورية الرسمية في نسج علاقة تحالفية أو مصلحية مع الدولة الصهيونية؟ كما تدعي بعض الشخصيات السورية المشهورة إعلامياً. حيث تخلط هذه الشخصيات بين مفهومين منفصلين، يتمثل الأول في موقف الدولة الصهيونية من شخص الأسد، بينما يعبر الثاني عن موقفها من طبيعة النظام المسيطر على سورية. حيث يبدو من التجربة المصرية والتونسية وأي تجربة عربية أو حتى إقليمية أخرى، إمكانية استبدال شخص الحاكم دون أي اعتراض صهيوني، أو بقليل من التحفظ فقط، كما حدث عند تنحي مبارك بقرار أمريكي وكذلك بعودة السيسي.
أما طبيعة النظام الحاكم والمسيطر على سورية أو على أي من دول المنطقة، فهو بمثابة الخط الأحمر صهيونياً، لأن هدم أسس الأنظمة الاستبدادية والرجعية ومنظومة نهب الثروات والخيرات الوطنية، وهيكلية نشر التخلف والتطرف والطائفية، يعني تشييد دول مستقلة حرة ومتطورة على أسس العدالة والمساواة، ما يتناقض مع طبيعية ومساعي وغايات الصهيونية. لذا لا تخفي الصهيونية خشيتها من هذا المسار، بل ومعارضتها له، وصولاً إلى تصديها له ومحاربته. وهو ما حصل مع الثورة السورية، إذ لم تدافع الدولة الصهيونية عن شخص الأسد، بقدر ما حاربت أهداف ومنطلقات الثورة السورية الأساسية، التي عبرت عنها الجموع الشعبية من درعا وحمص ودير الزور وحماة إلى غوطة دمشق الشرقية والغربية والقامشلي وبانياس، وسواها من المدن السورية التي طالبت ببناء دولة العدالة والمساواة والحرية لجميع مواطنيها، وبغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو الإثني أو الديني أو العقائدي، كخطوة أولى في مسار نهضة سورية وتطورها وتحولها إلى دولة رائدة في الإنتاج الصناعي والزراعي وعلى الصعيد العلمي.
فهذه الأهداف هي التي دفعت الصهيونية نحو موقف عدائي تجاه الثورة السورية، والذي انعكس من خلال صمت مجمل المجتمع الدولي، وغض النظر عن جميع جرائم الحرب المرتكبة بحق السوريين والإنسانية، بما فيها تلك التي ارتكبت أمام أنظار العالم أجمع، كما في أقبية السجون السرية التي فضحتها تسريبات قيصر منذ مدة طويلة جداً. وعليه فإن موقف الصهيونية من قوى المعارضة السورية الرسمية أمر ثانوي وغير مهم، لأنه مرتبط بدور هذه القوى وأدائها السياسي داخل سورية، وبغض النظر عن فحوى خطابها السياسي. فالصهيونية لا تلهث خلف أوهام خطابية جوفاء، كما يلهث بعض العرب خلف عنتريات محور الممانعة الخطابية، بقدر ما يعنيها ممارسة المخاطب ومدى تقاطعها مع المصلحة الصهيونية، ومصلحة الصهيونية في أسر المنطقة واحتجاز تطورها وتقدمها، فإن ضمنت قوى المعارضة السورية لها ذلك كما ضمنه لها الأسد ومجمل النظام الرسمي العربي، عندها لا ضرر من استبدال واجهة النظام أي نظام كان بأي من أشباهه القادرين على خدمة المصلحة الصهيونية، وتدمير المصلحة الوطنية السورية والعربية عموماً.
وعليه فالمسار التطبيعي العربي عموماً والسوري خصوصاً النظامي منه والمعارض، هو مسار يناقض أهداف الثورة، بل ويقوضها أيضاً، الأمر الذي يقتضي نسج موقف حاسم وحازم منه استناداً للمصلحة الوطنية أولاً، والأخلاقية ثانياً، والاجتماعية ثالثاً. فتطبيع النظام الرسمي العربي مع الدولة الصهيونية هو إشهار علني لتحالف قوى الاستبداد والإجرام والعنصرية التي تسعى إلى تقسيم المنطقة وإغراقها في أتون الجهل والتخلف والطائفية، الأمر الذي يتطلب من شعوب المنطقة تحالفاً تحررياً ونهضوياً موازياً وجذرياً، لا يفصل بين قضايا التحرر والعدالة السياسية والوطنية والاجتماعية، فمسار التحرر من جميع السلطات الغاشمة والقابضة على أنفاسنا واحد من ليبيا والجزائر إلى سورية وفلسطين مروراً بالبحرين والسودان والعراق ولبنان.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”