التضليل في القانون
يعتبر التضليل تخط الحقيقة وتغطيتها بصورة مخالفة ومغايرة لها ونسج من الكذب والرياء، وقد لازم السلوك البشري الشرير، كما الخير والشر.
التضليل ليس مصطلحاً حديث النشأة، اعتاد بعضهم سلوكه في حياتهم، وتمرسوا بتنفيذه بأساليب مختلفة، الاحتيال، الافتراء، الخداع، وكسلوك فردي غالباً، وأحياناً سلوك جماعي لمجموعة ما، ذات طابع سياسي غالباً، دولة كانت أم حزباً، فالتضليل جريمة أخلاقية بالدرجة الأولى ذات طابع جنائي الوصف قانوناً، تهدف لإرباك العدالة في الحالات الفردية وفي الحالات الجماعية تغيير المسار التاريخي لمجتمع أو شعب ما، وهنا مكمن الخطر، وضالتنا تسليط الضوء على هذه الجريمة. فما هو التضليل بالقانون السوري؟
حقيقة لم نجد مصطلح التضليل لدى المشرع السوري، فبالعودة لقانون العقوبات السوري لا توجد مادة أو نص قانوني تشتمل على هذا المصطلح صراحة كما هو الحال في بعض القوانين العربية مثال القانون العراقي (تضليل القضاء مادة 248 عقوبات) لكنه أتى بتعابير وتوصيفات أخرى لهذه الجريمة التي تنضوي تحت عنوانها مجموعة جرائم نص عليها قانون العقوبات السوري بالباب الرابع واصفاً إياها (الجرائم المخلة بالإدارة القضائية) من المادة /388 حتى 406/ تتضمن كتم الجنايات وانتزاع الإقرار والمعلومات واختلاق الجرائم والافتراء والهوية الكاذبة وشهادة الزور والتقرير الكاذب والترجمة الكاذبة واليمين الكاذب وأخيراً وليس آخراً التصرف بالأشياء المبرزة أمام القضاء. هذا ما ورد بقانون العقوبات السوري فإذ أسقطنا أوصاف ومسميات تلك الجرائم على الأفعال الجماعية الماسة بحقوق الشعب السوري نكون أمام ( جرائم منظمة) يمكن وصفها قانونياً بأنها جرائم ضد الإنسانية إذا تمت مقارنتها بتعريف الجريمة ضد الإنسانية، التي تعني الحماية الأساسية لحقوق الإنسان في وقت الحرب أو النزاع المسلح وأثناء السلم أيضاً وفق ما توصلت إليه المحكمة الجنائية الدولية، بعد مسار من العمل القانوني الدولي والإنساني للتوصل لصيغة تخدم البشرية فيها بتوصيف وتكييف الأفعال المشكلة لجرائم ضد الإنسانية، وفي تعداد هذه الجرائم لدى محكمة الجنايات الدولية في مشروعها في مؤتمر روما /1997/ في تعريف شامل بالمادة /7/ من النظام الأساسي للمحكمة كما ورد “جريمة الاختفاء القسري للأشخاص إلقاء القبض على أي شخص أو اشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه. ثم رفضها الإقرار لحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم، بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة” هذا التكييف القانوني وفق النظام الأساسي للمحكة الجنائية الدولية يتماشى مع بعض ما نص عليه قانون العقوبات السوري في كتم الجنايات والجنح بالمواد /388-390/ لكن الفرق أن الكتم أو التضليل الذي قصدته محكمة الجنايات الدولية هو حماية حقوق الإنسان الأساسية بينما قصد المشرع السوري تجريم الإخلال بسير القضاء فهو لم يقصد التضليل بالمعنى الحقيقي له على الأقل في المواد الثلاث السابقة بل فقط حماية العملية القضائية والحفاظ على أمن الدولة وليس الموضوع الإنساني وحماية حقوق الإنسان، بالنتيجة لم يكن البعد الإنساني ضالته في هذه المواد، ولكنه بالوقت نفسه ميز أفعال الأفراد المنطوية على التضليل وجرمها ببقية المواد من /391 حتى 406/.
بالعودة إلى إسقاط الوصف الجرمي (التضليل) على أفعال السلطة في سوريا في مواجهة الشعب السوري، نجدها متطابقة مع تعريف محكمة الجنايات الدولية واعتبار أفعال هذه السلطة ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية كالاختفاء القسري وكتمان المعلومات عن أماكن وجود المعتقلين لدى الجهات الأمنية وعدم إعطاء أية معلومة أو حتى الإقرار بوجودهم لديها بقصد حرمانهم من الحصول على الحماية القانونية ولإطالة أمد معاناتهم والإبطاء في سير الإجراءات القضائية، أما التضليل بالخط العريض الفاضح بشكل علني يأتي من إعلام هذا النظام فيضيف جرائم أخرى إلى سجله الجنائي، إنه (التضليل الإعلامي).
على مدى ستين عاماً من حكم البعث لم يكن هنالك إعلام بالمعنى الحقيقي بل موظفي إعلانات وما أسماه النظام (الإعلام الموجه) إنما يخدم مصالحه وليس مؤسسة لها قواعدها وأصولها وفقاً لوظيفتها ومسؤوليتها القانونية والأخلاقية فالإعلام حق للشعب كي يعرف كل ما يجري بكل شفافية ومصداقية ولتصل إليه المعلومة احتراماً لحقه ولعقله ولإنسانيته.
التضليل الإعلامي المتبع من النظام في سوريا خلال هذه السنوات الطوال كان حاجزاً بين الشعب وبين الحقيقة، وخلق مساحات من الجهل ضمن هدفه (سياسة القطيع)، وافتقر إلى المحاكاة العقلية لدى الكثيرين ما خلق بعداً في مسارات التفكير وشرخاً بين فئات المجتمع السوري ليسهل عليه تطويع المجتمع وتدجينه، هذا التضليل الإعلامي المقصود ولّد نتائج كارثية.
الكثيرين استفاقوا من سبات عميق بعد تمكنهم من متابعة أخبار العالم وانتشار التكنولوجيا الحديثة في الإعلام عبر شبكات التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى وعبر الإعلام الخارجي، فكانت الصعقة الكبرى للكثيرين لدى مقارنتهم الواقع الحقيقي بما وصل إليهم من (الإعلام الموجه) الذي أقصى المجتمع السوري، وحرمه من أبسط حقوقه في معرفة الحقيقة وفي التعبير عن الرأي الذي لا يصب في مصلحة النظام، لذلك، فإن مواجهة الشعب بتضليل أكبر زادت من الفروقات وخلقت انقسامات كانت نتيجتها الدمار الذي حصل وما زال مستمراً.
إن التضليل الإعلامي الذي اتبعه النظام بعد مطالبة الشعب السوري بحقوقه، يشكل جرائم ضد الإنسانية كون هذا التضليل يعتبر اعتداء على الإنسان السوري، يسخر منه ومن آلامه ومعاناته ومن عقله وتفكيره، هذا الإعلام المضلل الضحل السطحي هو شريك بالجرائم ضد الشعب السوري وفي النيل من حقوقه الأساسية بالحياة الإنسانية الكريمة.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”