التحرش بين الواقع والقانون
أحاط القانون بمجمل التصرفات، والأفعال الناجمة عن الأفراد باعتبارهم يمتلكون القدرات العقلية للتمييز بين الخطأ والصواب، سواء بأفعالهم الإيجابية أم بالأفعال السلبية بمعنى الامتناع عن الفعل، لكنه لم يستطع مواكبة كل التصرفات الصادرة عن الإنسان بحكم موقع القانون من الجغرافيا وبحكم عامل الزمن، ومن جملة النقص بالتشريع السوري عدم قدرة المشرع على استنباط أحكام جديدة تتناسب مع الأفعال القديمة/الجديدة، ربما لنقص الثقافة المجتمعية، أو لتقصير من القائمين على التشريع، وربما الاثنين معاً، والذي يعنينا هنا ظاهرة التحرش القديمة/الحديثة فهي ليست وليدة العصر بل قديمة قدم الإنسان على الأرض لكنها أخذت مسارات جديدة مع التطور التكنولوجي وظهور وسائل الاتصالات الحديثة التي سهلت على المجرمين إيجاد ضحاياهم والعبث بحياتهم.
بالرغم من كون هذه الجريمة أصبحت ظاهرة استفحلت بالانتشار تشكل خطراً على حرية وخصوصية الأفراد لم نجد أي نص صريح وواضح بالقانون السوري يعالج هذه المشكلة، لم يفرد قانون العقوبات أي نص قانوني يعاقب على التحرش ولا حتى وجود لهذا المصطلح في القانون.
ما هو التحرش؟
التحرش لغة، هو التمادي والمضايقة باللفظ أو الفعل أو النظر يشكل إيذاءً نفسياً أو جسدياً يقع على الضحية.
منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة عرفتا التحرش الجنسي بأنه “كل سلوك له إيحاءات جنسية غير مرحب بها من قبل الطرف الآخر ويشمل أيضاً طلب خدمات جنسية أو تصرفات ذات طابع جنسي ويمكن القول عبر الكلام أو النظرات أو عرض مواد جنسية في مكان العمل بحيث يراها الطرف المستهدف”.
نرى هذا التعريف شاملاً تقريباً للأفعال المشكلة لجرم التحرش. بينما نرى خلو قانون العقوبات السوري من مصطلح التحرش وحتى بالنصوص القائمة كالمادة /493/ التي تعاقب ما أسماه المشرع (الفحشاء) للأفعال المنافية للحشمة بالرغم من عدم وجود نص آخر يدور حول نفس الموضوع
“1- من أكره آخر بالعنف أو التهديد على تحمل أو إجراء فعل مناف للحشمة عوقب بالأشغال الشاقة مدة لا تنقص عن اثنتي عشرة سنة.
2- ويكون الحد الأدنى للعقوبة ثماني عشرة سنة إذا كان المعتدى عليه لم يتم الخامسة عشرة من عمره”
وزيادة في الإيضاح عرفت محكمة النقض ما هو الفعل المنافي للحشمة:
“إن الفعل المنافي للحشمة لا يؤثر إلا إذا كان تحت تأثير الإكراه بصدد العنف أو التهديد، وإن العنف يشمل جميع أنواع الشدة والإيذاء والتعذيب والتهديد يشمل كل ما من شأنه أن يدخل الخوف على المجني عليه حتى يخشى الأذى على نفسه أو من يلوذ به”
(نقض رقم 608 أساس 390 تاريخ 13/5/1985 محامون ص 279/1985)
اقتبسنا هذا النص للدلالة على انكفاء المشرع السوري عن تجريم بعض التصرفات التي تنطوي على فعل التحرش بينما هي بالواقع تأكيد للنية الجرمية للمتحرش. مثلاً (النظرات التي تخترق جسد امرأة ضحية بشكل متعمد دون القيام بفعل إيجابي مباشر لاقتحام جسد هذه الضحية) تلك النظرات تعتبر نوعاً من أنواع التحرش تؤذي الضحية نفسياً وتعتبرها بمثابة الاعتداء المباشر على الجسد ولا تنقص عنه إيذاءً.
وبالرغم من إحداث قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية أيضاً، هناك غياب لمصطلح التحرش والاكتفاء بتجريم انتهاك حرمة الحياة الخاصة عبر الشبكة العنكبوتية، بالمادة /23/ من هذا القانون بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وبالغرامة من مائة ألف إلى خمسمائة ألف ليرة سورية كل من نشر عن طريق الشبكة العنكبوتية معلومات تنتهك خصوصية شخص دون رضاه حتى لو كانت صحيحة.
هذا البعد بين النص القانوني والواقع، يترك مساحات لاقتراف جرائم التحرش التي تعتبر من الجرائم الأكثر انتشاراً، وتوسعاً، لسهولة ارتكابها عبر مواقع التواصل الاجتماعي من جهة وصعوبة الكشف عنها من جهة أخرى، لتحفّظ الضحايا بالإبلاغ عنها، خوفاً من نظرة المجتمع للضحية، وتحميلها مسؤولية التحرش، باعتبار النساء هن الأكثر تعرضاً للتحرش ولذلك يحملها المجتمع مسؤولية ارتكاب الجرائم الجنسية بحقها ومنها جريمة التحرش، ولذلك تفضل معظم النساء الصمت عن هذه الجرائم حتى في المجتمعات المتحضرة حيث لا تتعدى نسبة النساء المبلغات عن جرائم التحرش 5% من مجمل ضحايا التحرش. بالإضافة إلى كل ما سبق فإن إمكانية الإفلات من العقاب واردة بشدة، كما أن العقوبات غير متناسبة مع الجرم ولا تحقق الغاية منها، وهي الردع للحد من ارتكاب هذه الجرائم.
إن التحرش جريمة تنم عن نفسية مريضة تحمل في طياتها نظرة فوقية معبرة عن ذلك بالتنمر والتمييز تجاه الضحية التي تراها أدنى منها، كما أنها قائمة على العنف.
مع ازدياد انتشار هذه الجرائم التي تشكل خطراً وقيداً على الحرية واقتحام الحياة الخاصة للضحايا، ينظر الباحثون الاجتماعيون إلى مسؤولية المجتمع عن تنامي هذه الجرائم وتحولها إلى ظاهرة مجتمعية خطيرة توحي بتدني الأخلاق وغياب القانون، وكونها نوع من أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي، فإن علاجها يكمن في نشر الثقافة المجتمعية بضرورة فضح الفاعلين ومعاقبتهم وتعريتهم. وتحفيز الضحايا على الإبلاغ عن هذه الجرائم وعدم تحميلهم مسؤولية حدوثها.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”