الانتقال السياسي في سورية.. ضرورة مشاركة كلّ قوى الثورة والمعارضة في صنعه
يعتبر يوم الثامن من كانون الأول الجاري فاصلةً بين زمنين سوريين، زمن سقوط نظام الاستبداد والديكتاتورية، الذي ولد مع انقلاب الثامن من آذار عام 1963 وزمن ولادة المربع الأول للتغيير السياسي، والذي ولد في الثامن شهر كانون الأول الجاري.
الانتقال السياسي كان ولا يزال جوهر كفاح الشعب السوري منذ تفجّر ثورته في آذار عام 2011 وحتى يومنا هذا، هذا الانتقال ضرورة تاريخية لعملية سياسية جديدة لا يمكنها أن تبدأ بصورة موضوعية وشفافة وصريحة دون أن تسبقها هذه المرحلة، إذ يجري فيها الركون إلى خطوات تساعد المجتمع على امتلاك الوقت اللازم لوضع عقده الاجتماعي الجديد “دستور البلاد”، بما يتوافق مع طموحاته وشعاراته بقيام دولة مؤسسات ديمقراطية ومواطنة متساوية.
الانتقال السياسي ليس مجرد تبديل حاكم بحاكم، أو جماعة سياسية بأخرى فحسب، بل هو تغيير عميق ببنية ووظيفة الدولة، والتي ينبغي أن تكون دولة على قدم المساواة مع كلّ مكونات الشعب السوري الاثنية والدينية والطائفية والمناطقية، هذه الدولة كانت قد ذابت في بنية السلطة الاستبدادية في فترات حكم البعث والنظام الأسدي، مما حوّلها إلى أداة قمع وبطش بحق السوريين، واستئثار باقتصاد البلاد عبر فسادٍ متعدد الوجوه والأذرع.
وكي يصبح الانتقال السياسي عمليةً عميقة التغيير في بنى المجتمع، فهو يحتاج إلى عقد مؤتمر وطني يشمل كل مكونات السوريين السياسية والاجتماعية، مما يتيح نقاش كل قضايا وحدة هذا الشعب على قاعدة المواطنة المتساوية، سواء ما يتعلق بحقوق الفرد أو واجباته من أي مكون كان، دون تمييز اثني أو ديني أو طائفي أو مناطقي.
عقد مؤتمر وطني جامع لكل المكونات الوطنية السورية يمنع الانزلاق من إعادة إنتاج نظام شمولي تحت أي مسمى، وهذا لا يتحقق بغير دولة يحكمها دستور يقرّ بحقوق كل افرادها ومكوناتها الثقافية والاجتماعية ويمنحها فرصة المنافسة السياسية المتساوية في أي عملية انتخابية لاختيار حكومة جديدة ضمن مدة زمنية مجددة.
عقد مؤتمر وطني جامع هو من يقرر شكل العدالة الانتقالية ومضمونها بصورة موضوعية وبما يتناسب مع القوانين الوطنية والدولية المختصة بهذا الشأن.
إن بعض من يطرح فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني على مقاسه السياسي، ومحاولة الاستئثار بالسلطة، إنما يدعو إلى بقاء جذوة الصراع السياسي في البلاد مشتعلة، باعتبار إن جوهر هذا الصراع يتمثّل بضرورة بناء دولة مواطنة ومؤسسات ديمقراطية، وهو ما يتمّ الالتفاف عليه.
السوريون حين ضحّوا عبر ثورتهم بمئات آلاف الشهداء كانوا منذ البدء يهتفون للحرية والكرامة وبناء دولة المؤسسات الديمقراطية، وهذا ما ينبغي أن تدركه حكومة الإنقاذ الحالية أو بصورة موسعة، تفترضها قيادة غرفة عمليات قوات “ردع العدوان”.
لا يمكن أن يستقر الوضع السياسي بصورته الطبيعية مع وجود غبنٍ سياسي بحقّ أية قوّة سياسية أو اجتماعية، هذا الغبن يولد من فكرة أن تدعو حكومة تصريف الأعمال “التي يرأسها محمد البشير” بنفسها من تريده أن يحضر مؤتمراً وطنياً عاماً وضعت مقاييس له، فمثل هذا الإجراء يرسّخ إقصاء قوى سياسية من حقها حضور المؤتمر الوطني الجامع بما يخدم تنفيذ مرحلة انتقال سياسي حقيقي يتمّ خلالها تذويب كل صراعات محتملة بإمكان مؤسسة العدالة الانتقالية حلها وفق الأنظمة والقوانين الوطنية والدولية.
إن قوات “ردع العدوان” جزء من قوى الثورة السورية، وإن الجيش الوطني السوري هو جزء آخر من هذه القوى، وبالتالي فمن الطبيعي أن تجتمع القوتان العسكريتان وتمثيلهما السياسي في الدعوة إلى عقد المؤتمر الوطني الجامع، وبدون ذلك، ستكون الأمور بغير سياقها الطبيعي، بحيث ستكون هناك فرصة أو احتمال لنشوب صراعات أخرى لا يرغب بها الشعب السوري الجريح والمنهك طيلة صراعه مع منظمة الفساد والاستبداد الأسدية.
كذلك ينبغي أن يحضر المؤتمر الوطني ممثلون عن منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية على اختلاف تلويناتها الأيديولوجية والسياسية، وممثلون عن الفعاليات الاقتصادية والفكرية والثقافية عن كل مناطق سورية جغرافياً.
إن الإصرار على إنتاج نظام حكم خاص يمثّل جماعة إيديولوجية أو سياسية، تستأثر بالسلطة وتفرض أجندتها، سيكون بمثابة تفريغ الثورة السورية من مضامينها العميقة المرتكزة على مفهومي الحرية وتداول السلطة سلمياً على قاعدة عقد اجتماعي يكفل لكل مكونات الشعب السوري حقوقها الوطنية والثقافية والسياسية.
إن حكومة تنبثق من هيئة تحرير الشام وحلفها الأيديولوجي أو السياسي لن يكون بمقدورها تمثيل كل مكونات الشعب السوري الأخرى، وهذا يتطلب فهم إن الاحتكام إلى صندوق انتخابات شفافة على المستوى الوطني بعد انقضاء فترة المرحلة الانتقالية هو من سيحمل حكومة شرعية سيختارها ممثلو الشعب السوري المنتخبون.
بقي أن نقول إن المطلوب وطنياً هو مؤتمر وطني سوري شامل تتمثل فيه كل مكونات الشعب السوري المختلفة على قاعدة الوطنية السورية.