الاشتغال على الأنقاض حدودٌ مستقبليةٌ محتملة
لا شكّ أنّ المشهد السوري، أكثر تعقيداً من إمكانيّة الإحاطة به، ورسم سيناريوهاتٍ مستقبليةٍ للتعامل معه، نتيجة تشابك المتغيرات المحلية والخارجية، وتعدُّد ذوي المصالح، وغياب رؤيةٍ وطنيةٍ جامعة، عدا عن عدم القدرة على تطبيق أيّة رؤيةٍ أو التأثير في مجريات المشهد السوري.
وعوضاً عن ذلك، يمكننا رسم حدود المستقبل وليس سيناريوهاته، بحيث يكون واضحاً أمامنا، المساحة التي يمكن لنا نحن السوريّون الاشتغال فيها، ومن خلالها، بحثاً عن آليّات إعادة بناءٍ ستحتاج إلى سنواتٍ من العمل الجادّ للوصول إلى إطلاق مسارٍ سليمٍ نحو دولةٍ ديموقراطيةٍ ليبرالية.
أوّل هذه الحدود، أنّ المشهد ما زال مركباً بين الروس والأمريكيّين، عدا عن الدول الإقليمية الفاعلة الأخرى، ما يجعلنا بين حدّي الحفاظ على شكل الدولة الحالي وبين تفكيكها إلى دول/كيانات عدة. وما يدفعنا لوضع هذين الحدّين، هو رغبة روسيا في الحفاظ على شكل الدولة لتعظيم مكاسبها، في حين أنّ الدول الإقليمية والولايات المتحدة غير معنيةٍ بذلك فعلياً، ويتّفق الحدّان مع مصالحها.
وبغضّ النظر عن بقاء الدولة على حالها أو تفكيكها، ففي كلا الحالتين، نحن أَبعَدُ ما يكون عن بناء نظامٍ ديموقراطيٍ حقيقيٍ حالياً، وربّما أَبعَدُ حتّى من عام 2011، نتيجة التخريب الذي وقع في البنى الثقافية والمجتمعية والهويتية السورية، بشكلٍ يعيق عملية الانتقال الديموقراطي. وعليه فنحن بين حدّين متطرّفين آخرين، بَعِيدَيْنِ عن الديموقراطية بشكلها المنشود ثورياً.
أي أنّنا نراوح بين حدّ سلطةٍ مركزيةٍ ضعيفةٍ في دمشق، لا تمتلك كثير تأثيرٍ في الأطراف، مقابل سلطاتٍ أكثر فعاليةً في عدّة مناطق سورية (شرق الفرات، شمال سورية، الساحل السوري، وربّما المنطقة الجنوبية أيضاً). وذلك في مقابل حدّ سلطةٍ شبه ديموقراطية/شبه تسلطية في دمشق، تعيد فرض هيبة الدولة وتعزّز مستويات الأمن شبه المفقودة، وتتيح مجالاً محدوداً من الحريات السياسية، تتّسع تدريجياً وبشكلٍ يتناسب طرديّاً مع الاستقرار الأمني.
وخصوصاً أنّنا أمنياً، نقع أيضاً بين حدّين متطرّفين آخرين، فإمّا أن نرى أشكالاً جديدة من النزاعات المسلحة، في حال وقوع أي تغييرٍ في رأس النظام الحالي، سواءً على مستوى النزاع الميليشياوي، أو الإثني، أو حتّى على مستوى الجريمة المنظمة. وخطر تجدّد بروز الجماعات الإرهابية عابرة الحدود، في بيئةٍ هشّةٍ ومتداعية. مقابل الحدّ المنشود وهو الأضعف، والمتمثل في تعزيز مستمرٍ ومتصاعدٍ للأمن.
أمّا على مستوى شرعية السلطة، فإنّ شكلها المرتقب، قائمٌ على ما سبق من حدود، بين شرعيةٍ متآكلةٍ غير قادرةٍ على الاشتغال على الملفات السورية، وهي شرعية الأسد نفسه في حال استمراره في السلطة، وهو السيناريو الذي لا نميل إلى فرضيته، ونعتقد أنّه بات ضعيف الاحتمال (ربّما غير وارد).
في حين أنّنا أمام حدّين آخرين من الشرعية المرتقبة، فأوّلهما شرعية السلطة الهشّة في دمشق أو السلطات المحلية، وهي شرعياتٌ لا تتجاوز حدودها الجهوية في مناطقها، وتكتسب شرعيّتها من حكم الأمر الواقع، ومن حجم قدرتها اللاحقة على فرض الأمن والاستقرار، وربّما من حجم قدرتها على تصفية منافسيها.
أمّا شرعية سلطةٍ شبه ديموقراطية/شبه تسلطية في دمشق، فربّما تكون الأكثر استقراراً، حيث أنّها تبقى مقبولةً من قبل غالبية حاضنة النظام الحالية (المغلوب على أمرها)، ومن كثير من الحاضنة الثورية التي تعاني الأمرّين في الشتات ومخيمات اللجوء، والتي تبحث عن تغييرٍ يسمح لها بالعودة مطمئنة إلى البلاد ويوفر لها استقراراً وأماناً، لذا فإن شرعية هذه السلطة ستكون أكثر قبولاً في حال وفرت السلع التالية:
– الأمن المجتمعي.
– استقرارٌ نسبي.
– توقف الملاحقات الأمنية، وإطلاق سراح المعتقلين.
– هامشٌ من الحريات السياسية.
– إعادة الأملاك العقارية المنهوبة، ولو كانت مدمرة.
– توفير حدِّ أدنى مقبولٍ من استقلالية القضاء.
– توفير حمايةٍ مقبولةٍ لبيئة الأعمال (الصغيرة والكبيرة على السواء).
إنّ الاتجاه إلى أيٍّ من هذه الحدود، يبقى في ظلّ المعطيات الحالية، أمراً بيد القوى الفاعلة في الملف السوري، ونتحدث خصوصاً عن الولايات المتحدة وروسيا، فيما ينخفض مستوى تأثير القوى السورية إلى حدٍّ قريبٍ من الصفر في شكل التغيير وساعته.
وعوضاً عن ذلك، تمتلك القوى السورية مستويين آخرين من التأثير، الأول عبر القوى السياسية/الأشخاص، الذين سيناط بهم إدارة المرحلة اللاحقة، ومدى قدرتهم على استعادة الدولة وإطلاق عملية بناءٍ على الأنقاض، وهو ما يتطلّب تنسيقاً بين عدة قوى، على تقريب الرؤى وأدوات الاشتغال على تحقيق ذلك.
أما المستوى الآخر والأهم، فهو مرتبط بشكل أكبر، بالمجتمع المدني السوري، عبر منظّماته وأحزابه وقِوَاه الفاعلة وجماعات المصالح، وهي المنوط بها، منذ اللحظة الأولى للثورة، وبشكلٍ حثيثٍ الآن، صياغة مقوّمات هُويةٍ سوريةٍ جديدة، قادرةٍ على أن تكون قاعدةً صلبةً يجتمع حولها السوريون لبناء مستقبلهم، فنحن جميعاً مدعون اليوم لأن نشتغل على ردم ما بيننا من فجواتٍ هُويّتيةٍ وفكريةٍ ومصلحية، وأن نكثّف الحوارات البنّاءة للوصول إلى صيغةٍ مقبولةٍ تشتغل عليها غالبية قوى المجتمع المدني، حتى نكون قادرين على منع حصول انهياراتٍ جديدةٍ في الدولة السورية لحظة التغيير، ودافعاً مُنظّماً نحو الوصول إلى الحدّ المنشود ثورياً، والمتمثّل في الدولة الديموقراطية الليبرالية.
“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”