fbpx

الاختيار فن وهوية…هل نحن احرار في اختياراتنا؟

0 300

يبدأ الاختيار منذ لحظة الولادة. هو غريزة فطرية موجودة عند الإنسان ولا يمكن لأي شخص أن يعيش حياة طبيعية دون أن يصنع حياته بالطريقة التي يختارها، تمثل الخيارات الحرية للإنسان، ولذلك يسعى الفرد دائماً لأن يرسم لوحة حياته ويلونها بخياراته. الانتقاء يمثل أرضية الاختلاف بين البشر، هي الهوية التي لا يمكن أن نبرزها في بطاقة السفر، يقال دائما إن الحرية والاختيار وجهان لعملة واحدة وهي الفرق بيني وبينك، وإذا تعمقنا في النفس البشرية سنكتشف أن هناك عوامل تتحكم في خياراتنا وتسيطر على أذواقنا وتصرفاتنا. والسؤال الذي يطرح دائماً… ما الذي يؤثر في خياراتنا؟ وكيف تؤثر الخيارات في حياتنا؟ وما هي الحدود التي يجب أن نقف عندها؟

يجب أن نعترف أن فن الانتقاء من الأهمية بحيث يمكن أن يؤدي الى خيارات ربما تصبح سبباً في سعادتنا أو شقائنا، هناك أشياء كثيرة من حولنا تؤثر على قراراتنا ومسؤولة عنها، أهمها ثقافة المرء ووعيه، المكان الذي يعيش به، عائلته، أصدقاؤه، ولا نستطيع أن ننكر الأحاسيس والشعور وموروثاتنا الفكرية، وأكثر ما يلفت الانتباه في هذا الأمر أن الضغوطات والتجارب السلبية التي نمر بها تلعب دوراً كبيراً في خياراتنا، هذا بالإضافة إلى البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكذلك وسائل الإعلان بقدرتها على غسل الأدمغة وجرنا الى مالا نرغب به، فنفعله بطواعية ورغبة. ويجب ألا ننكر دور الدين والمعتقدات في التأثير علينا حيث يكمن بين ثناياها أهم التصرفات المتداولة بيننا.

رغم كل الاختراقات والتأثيرات على حرية الانتقاء التي خص الله الإنسان بها دون غيره من الخلائق وهذا التداخل بينهما، إلا أن الإنسان يقوم بالانتقاء بشكل عفوي، فيبدع في تلوين الكون وهذا يؤكد أهمية الانتقاء والمفاضلة بين الأمور حيث تقول الدكتورة شيينا انغار: “بالرغم من أن البشر لم يحوزوا على المخالب الحادة، والجلود السميكة، والأجنحة الكبيرة إلا أنهم حكموا الأرض بقدرتهم على المفاضلة بين الخيارات”. وأعتقد أن أكثر ما يؤثر على جودة الانتقاء لدينا هو ثقافة الفرد ووعي المجتمع، فالثقافة هي الدم الذي يسري في أي حضارة فتمنح رقي الانتقاء لأي مجتمع، وتدخل ضمن منظومة الحياة فتصنع التصورات التي نرى من خلالها الحياة، ثقافة الأفراد تعطي معاني للحرية فتختلف المعاني من مجتمع لآخر وتبين لنا ماذا نختار أو لا نستطيع أن نختار، عندها يصبح المرء أكثر سعادة لأنه حر في خياراته. أنت تختار المنزل الذي تسكن به والطعام الذي تحبه وتختار ملابسك وطرازها وألوانها، وتنتقي أصدقاءك وعملك وكل شيء يخصك لتحقق ذاتك. ورغم أن العلم يقول إن هناك تشابه كبير فيما بيننا، وكثيراً ما نتشابه في خياراتنا، والأجدر بنا أن نستفيد من تجارب الآخرين لكي نتلافى الثغرات في خياراتنا ونتعلم من غيرنا ما مروا به من تجارب، ولكن نحن كبشر نشعر بالانتقاص من هذا التشابه لا نحبذه ولا نعترف به على الإطلاق، لذلك نرغب دائما بالتفرد ونسعى أن نكون مميزين. ولعل حياة بعض المفكرين والمناضلين داخل السجون، الذين أبدعوا في كتاباتهم، مثال حي للتحرر الباحث عن خياراته، ورغم قيد الجسد الذي فرض عليهم داخل السجن وجد هؤلاء العظماء ضالتهم في اختيار حريتهم الفكرية، كما حدث مع المناضل (نيلسون مانديلا) الذي قضى سنوات طويلة من حياته في السجن باحثاً عن خيار له يمنحه الحرية فكتب كتابه “سيرتي الذاتية”، كما أن أعظم كتاب فرنسا في عصر التنوير (فولتير) الذي تجاوزت مسرحياته خمسين مسرحية بالإضافة إلى القصائد الشعرية والقصص القصيرة، لم يتوقف هذا المبدع عن الكتابة بعد نفيه إلى سجن الباستيل وكتب أجمل كتبه الـ “هنرياديه” رغم أنه عوقب بعدم السماح له بالكتابة أو إدخال ورق للكتابة داخل السجن، فكتبها بين سطور رواية أخرى سمح له باصطحابها إلى منفاه، أما الفيلسوف والطبيب الأندلسي (ابن رشد) رغم محاربته وسجنه بسبب الواشين، الحاقدين، لم يكن أقل شأناً في خياراته في شرح ما كتبه أرسطو فانتزع اعتراف الغرب بإنجازاته العظيمة ولم يبخل عليه “مايكل أنجلو” بمكان في جحيمه الخيالي الذي صوره أعلى سقف (كنيسة الفاتيكان) بوصفه فيلسوفاً وذكره “دانتي” أيضاً في قصيدته، وعلى سبيل الذكر هناك العديد من الكتاب ممن أبدعوا في كتاباتهم داخل السجون فكان خيارهم الوحيد للحرية داخل هذه الزنزانة.

منذ أن تبدأ مسيرة وعينا نظل رهن الخيارات ولا نزال على هذه الحال، في كل خيار نجد عدة خيارات يجب أن نختار واحداً منها، وهكذا نبقى في دوامة الاختيار إلى ما لا نهاية. وكل ما نقوم به أو مالا نقوم به يأتي من الخيارات، أنت من تختار كل شيء، وهنا تكمن حريتك حتى (عندما لا تفعل شيئاً، هذا يعتبر خياراً بحد ذاته). وكثيراً ما تتطابق خيارات مجموعة من الناس فتصبح خياراتهم مطلباً أساسياً ويخرج هذا الخيار بشكل مفاجئ وعفوي لإسقاط نظام غير مرغوب به أو لتغيير واقع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي سيء، لم يقبل الاستبداد والظلم واختار الحرية مطلباً، وعلى الجانب الآخر ما يكون مقابل هذه المجموعة فئة لا تقدر قيمة الحرية وخياراتها مختلفة وتفضل الاستكانة والاستبداد بطيب خاطر ولا تدرك هذه الفئة أنها صاحبة حق ولها من القوة والإرادة ما يكفي للتغيير وفرض ظروف جديدة، ولا تدرك أن البشر يولدون أحراراً وأن غريزة الانتقاء تولد معهم، فتجدهم يستسلمون للعبودية والإذلال، وينخدعون بالوعود الكاذبة والترويج الممنهج من قبل السلطات ولم يكن أفلاطون يوماً مبالغاً عندما قال: “لو أمطرت السماء حرية لرأيت بعض العبيد يحملون مظلات” ولذلك يؤمن بعضهم أن بعض الشعوب هي من تصنع طواغيتها وتنام مطمئنة. ويعتقد بعض المفكرين أن انعدام حرية الاختيار في أي مكان تبدأ على مستوى المجتمع، في العائلة الواحدة، وتمتد لتشمل كل نواحي الحياة، فالمرأة في مجتمعاتنا وهي نصف المجتمع تكون غالباً في العائلة إنسانة مجردة من حرية الاختيار أو حرية الرأي، ولا يحق لها اتخاذ أي قرار بخصوص شؤون الأسرة وتطلعاتها، وغالباً ما تواجه خياراتها بالانتقاد والرفض، وتواجه الأنثى أيضاً رفضاً في اختيارها للشريك إلا بما يتناسب مع سلطة العائلة، وهكذا دواليك، هي عجلة تدور تبدأ بالفرد والأسرة وتنتقل للمجتمع وتكبر الدائرة على هذا النحو الأبوي العرفي إلى أكبر دائرة اجتماعية واقتصادية وسياسية، تطحن في رحاها الجميع وتشكل عجينة الاستبداد في بلد ما.

لو أعدنا النظر في حياتنا منذ الولادة… نجد أن المعايير المرافقة لحرية الاختيار تنطبق على ما نقوم به من خيارات، أمور متعددة تؤثر في انتقائنا للأشياء في الحياة، وهي تؤكد مدى الحرية التي نمتلكها، ولكن السؤال المطروح. هل يمثل الاختيار هوية الإنسان؟ وهل يكون الفرق بيني وبينك هو النقطة الفاصلة بين خيارين؟ أليست حرية الاختيار هي التي تحرر الفرد وتطلق أفكاره؟ إذاً عندما تكون الخيارات مفتوحة، إلى أي مدى يصل الإنسان في خياراته؟ وماهي الحدود التي يقف عندها؟

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني