fbpx

الإيديولوجيا، فزّاعة أم حاجة

0 1٬582

ترافقت الثورات العربية مع ظاهرة النفور الإيديولوجي والحزبي، كرد فعل عفوي أحياناً وقسري أحياناً أخرى على خطاب النظام العربي المؤدلج. وهو ما يتوافق مع السياق العالمي نوعاً ما، الذي عمل على ترويج بعض المقولات والأفكار أو المسلمات في المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي؛ مثل نهاية الإيديولوجيا، ونهاية التاريخ… إلخ. وهو ما يعبر عن فكرة وحيدة تتلخص في انتصار الإيديولوجيا أو الفكر النيوليبرالي على مجمل الإيديولوجيات الأخرى، وعلى جميع أنواع واختلافات وتنوعات الإيديولوجيا الماركسية بالذات.
لكن وبعيداً عن البحث في الغايات والمقاصد العالمية الكامنة خلف هذه التوجهات؛ لابد من التوقف عند تأثير الإيديولوجيا على أوضاعنا العربية الراهنة، وعلى دعمها أو إعاقتها لمسار التغيير الجذري المنشود شعبياً. فقد راجت في منطقتنا العربية المواقف والتحليلات التي تحمّل الإيديولوجيات عموماً، واليسارية خصوصاً – بما فيها الفكر القومي – مسؤولية الواقع الراهن الغارق في الحضيض، والناضح بالاستبداد والإجرام الحكومي المنظم، والنهب الاقتصادي الشامل، عبر المافيا الحاكمة. الأمر الذي دفع ويدفع العديد من المثقفين والناشطين والمعنيين في الشأن العام، إلى تكرار دعوات هجرة الإيديولوجيا على اعتبارها أحد أسباب الخراب والدمار الذي نرزح تحته اليوم.
هذه الدعوات تناهض الإيديولوجيا، وتنشد تأسيس مجتمع ودولة تلبي أهدافنا، بعيداً عن الخطابات الجامدة، وهو ما يجعلها براقة وجميلة من ناحية، وخاوية وجوفاء من ناحية أخرى، كونها تتجنب الدخول في التفاصيل الاقتصادية والسياسية، أو تتحايل عليها ببعض الكلمات المنمّقة. إذ لا يمكن اعتبار شعارات الحرية والعدالة والمساواة، أساساً كافياً من أجل البدء في عملية بناء الدولة والمجتمع، حيث تعتبر هذه الشعارات تابوهات سياسية لا يمكن لأي طرح سياسي أو فكري أو إيديولوجي تجاهلها، بل كانت ومازالت تمثل الأهداف التي تدعي جميع الإيديولوجيات والخطابات السياسية أنها تناضل من أجلها، الأمر الذي يجعلها قاسماً مشتركاً ووحيداً بين جميع الإيديولوجيات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بينما تكمن الخلافات الفكرية في التفاصيل الدقيقة المعنية بكيفية تحقيق هذه الأهداف، وبالقاعدة الاجتماعية التي يستهدفها ويراهن عليها هذا الطرح أو ذاك.
لذا وعبر التدقيق بجميع دعوات هجرة الإيديولوجيا، نلحظ اختلافات جوهرية فيما بينها على الرغم من تشابهها الظاهري، وهو ما يمكنّنا من تمييز مجموعتين منها، تنطلق الأولى من طروحات طوباوية وغير واقعية تدور حول هجر الإيديولوجيا دون أن تقدم أي فكرة أو حتى إشارة إلى أي أفكار عملية وتفصيلية خارج الإيديولوجيات وتتناسب مع منطقتنا وظروفنا، وكأنها صادرة عن مدمني المنتديات والجلسات الحوارية الجوفاء، التي لا تهدف إلى استخلاص الدروس والعبر، بقدر ما ترمي إلى توجيه سهام النقد اللاذع وأحياناً الجارح؛ إلى جميع الأفكار والمقترحات المطروحة.
أما المجموعة الثانية فيخفي دعاتها آراءهم وأهدافهم الحقيقية التي تعبر عن توجه إيديولوجي محدد خلف دعوات هجر الإيديولوجيا، مثل الداعين إلى الانفتاح الاقتصادي، وحرية التجارة، وإلغاء أو تقليص دور الدولة الاقتصادي، وكأنها توجهات وأفكار غير إيديولوجيا ولا تمت بأي صلة للفكر النيوليبرالي مثلاً!!، أو كأنها حقائق اقتصادية مثبتة علمياً، لا يمكن نقدها أو تحريفها أو رفضها. فيما هم يمثلون فكراً إيديولوجيا شمولياً واستبدادياً، يبرر أية وسيلة كانت في خدمة انتصار فكره وإلغاء جميع الأفكار التي تعارضه، فمن يبرر الكذب وتضليل الجماهير اليوم، لا يمكن استبعاد تبريره الاعتقال وربما القتل مستقبلاً؛ إن امتلك السلطة والقوة الكافية من أجل تطبيقهما على الآخرين.
وعليه وبناء على النموذجين السابقين وبغض النظر عن مواضع الخلل في كل منهما، نستنتج استحالة تقديم أية مقترحات أو حلول عملية ودقيقة ومفصّلة لمشاكلنا ومشاكل مجتمعاتنا، في معزل كامل عن التراكم المعرفي والسياسي العالمي والمحلي، هذا التراكم المتنوع والمتناقض في كثير من الأحيان، من حيث أدوات التحليل، وركائز الحل، والتي تعبر بمجملها عن الصراع الإيديولوجي الفكري. لذا فمن الأجدى لنا ولجميع المتخوفين من سطوة واستبداد الإيديولوجيا التمييز بين الإيديولوجيا الفكرية التي تمثل حصيلة تراكم التجارب والمعارف الإنسانية كافةً، وبين الإيديولوجيا الشمولية الاستبدادية التي تعبر عن ممارسة استبدادية منعزلة عن الفكر الذي تدعيه، وتعكس قدرة الفئات الحاكمة على تجييرها وتفكيكها وتركيبها وفقاً لمصالحها الذاتية، حتى يتم شخصنة الإيديولوجيا وتحويلها إلى مقولات وأفكار القائد الملهم والخالد، فهي تتحدد بأقواله وتفهم من ممارساته، فالحاكم أو العائلة أو العشيرة أو الحزب هي الناظم الوحيد للإيديولوجيا الشمولية وللدولة والمجتمع المحكومين من قبلها، وكأنها سلطة إلهية غير قابلة للنقد أو حتى النقاش. الأمر الذي أبقى الصين شيوعية على الرغم من رأسماليتها التي تفقأ العين، وسوريا جمهورية على الرغم من ملكيتها، أو سوريا اشتراكية على الرغم من تحرير اقتصادها وتبعيتها المطلقة لتركيا ما قبل الثورة، ولروسيا اليوم.
إذا نحن بحاجة توخي أعلى درجات الحذر، كي نتجنب الوقوع مرة أخرى في شباك الإيديولوجيا الشمولية فقط، والتي لا يمكن تحديدها بأي فكر سياسي يسارياً كان أم يمينياً، فكما استخدمت سوريا الأسد الفكر الاشتراكي والقومي ستاراً يبرر ويحجب استبدادها، استخدمت مصر ما بعد عبد الناصر فكراً ليبرالياً لذات الغايات، ما جعلنا أمام نظاميين متناقضين ظاهرياً، أي إيديولوجياً، ومتشابهين واقعياً، كونهما نظامين استبداديين لا يقل إجرام الأول فيهما عن الثاني. كما تتخفى الإيديولوجيا الشمولية أحياناً خلف سواتر مختلفة، منها الرجعية التي تنتمي إلى عصور سالفة وغارقة في التخلف، كالشعارات الطائفية والعشائرية مثل الأنظمة – والمجموعات – التي تتبنى الفكر الديني بشقيه السني والشيعي.
الإيديولوجيا الفكرية هي منظومة مادية قابلة للتطور والتعديل وفقاً للواقع ومقتضياته، تهدف إلى معالجة السلبيات والمشاكل التي أفرزتها الممارسة العملية، ضمن سياق تراكمي دائم ومستمر. لذا كانت وستبقى الإيديولوجيا الفكرية والصراع الإيديولوجي أحد أوجه التطور الإنساني، وأحد أهم مقتضياته، فهي الأداة التي حملت حلم الإنسانية بالعدالة والمساوة والحرية والديمقراطية، وهي أيضاً من قدمت الحلول والوسائل اللازمة لحماية الديمقراطية الشعبية ومن ثم تعزيز صلاحياتها.

“جميع المقالات في الموقع تعبّر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي نينار برس”

لن يتم نشر عنوان بريدك الالكتروني